حكاية شهيد تختصر قصة الثورة السورية

لم يكن إطلاق النار على التظاهرات الشعبية التي انطلقت في محافظة درعا مع بداية أيام الثورة السورية أمراً جديداً على نظام تاريخه معروف في قمع معارضيه وقتلهم, حتى منذ قبل الثورة ولا يُعرف غير ذلك, بل جديدها خطف الجرحى والشهداء من الشوارع والمستشفيات الحكومية, وهو ما جرى بعد إصابة محمد أبو العيون المحاميد ابن الأربعة وعشرين ربيعاً, في 23 مارس 2011 من يوم أربعاء لن ينساه آل المحاميد, ولا أهل حوران, ولا أحرار سورية, لأن الشهيد كتب فيه سِفراً من أسفار البطولة, بدمه كتب قصيدةً لا أجمل ولا أروع لعيون الحرية والكرامة. أصابوه برصاصهم المتوحش القاتل, خطفوه من الشارع, وظنهم أنهم قد أجهزوا عليه, وضعوه وهو على قيد الحياة جريحاً في أحد برادات الموتى في مستشفى درعا الوطني ليقضي فيه ما شاء الله له أن يقضي وحيدا داخل مستطيل مظلم وبارد, ذنبه أن نادى لنصرة أهله وناسه وحريتهم وكرامتهم, ينزف منه الدم مداداً, كتب بإصبعه فيه على حائط ثلاجة الموتى التي وضعوه فيها جملةً اختصرت فيها قصة نظام مستبد قامع قاتل جزار بالوراثة, وشرحت حكاية ثورة من البداية إلى النهاية, وجعلت قَدَرِه أسطورة مجدٍ, ومَطَر طهرٍ تنزلَ على أرض شموخٍ وإباء, فاهتزت سهول حوران وَرَبَتْ, وأنبتت آلاف الشهداء نضارةً وبهجة. ذلك لأن الله هو الحق, وأنه جعل لكل طاغية أجلاً, ولكل ظالم يوماً هو ملاقيه. فويل يومئذٍ للمجرمين.
كتب الشهيد”وضعوني هنا حياً…أنا عايش هسَّعْ, ورح أَموتْ بعْدينْ…بَسْ بَعْدْني بدي الحرية…أمانة سلمولي على أمي.”
كتب الشهيد العهد لمن بعده بدمه, وهو دين في رقاب السوريين الأحرار جميعاً بألا ينسوا الثورة, وألا ينسوا ماقاموا من أجله, فمن قضى فقد قضى شهيداً, ومن بقي على الطريق فهو على العهد حتى الخلاص ونيل الحرية.
سلام على شهيد كتب العهد بدمه سَطْرَين, فكان معلقةً ثامنة تضاف إلى معلقات العرب. ولئن كانت معلقاتنا من لغة نثر وشعر وتراث يتعلمه الأبناء والأحفاد, فهي في معلقة شهيدنا عز ومجد وتضحيةَ وفداء, نتعلم منه آباء وبنين وحَفَدَة. أن للحرية والكرامة على أرض البطولات السورية, رجالاً ونساءً وشباباً وصبايا, قدموا أرواحهم على طريقها أثماناً بالغة لاستعادة حريةٍ سباها المستعبدون وكرامةٍ سلبها الفجار القامعون.
سلام على شهيدٍ لن تنساه درعا وسلامٌ على أمه, وسلام على شهداء حوران جميعاً, سنابل قمح في كل سنبلة مئة حبة, تملأ سهولها نوراً لأبطال الحرية والكرامة ونيران حارقة للقتلة المجرمين.
سلام على شهدائنا في سورية أجمعين ورداً جورياً يملأ بعبقه البلاد, وشَجَرَ زيتون يضيء بزيته.
سماواتِ الوطن, وكرومَ عنب وعرائشَ ياسمين في ساحاتنا وعلى جدراننا وشرفاتنا تغني للوطن أجمل القصائد, وتُسمع العالم أننا صامدون, وأننا باقون شجرة صبار في حلوق القامعين والمستعبدين تغيظ الأعداء, ومن قضى منا على الدرب فهم في حواصل طيرٍ خضرٍ في أكناف عرش الرحيم الرحمن, يطيرون في جنة عرضها الأرض والسماوات.
حكاية محمد المحاميد ابن حوران الأبية, اختصرت قصة الثورة السورية منذ أسبوعها الأول, فكانت رسالة بالدم لطاغية الشام أشعلت ثلج السوريين ناراً تحرق عرشه, وأتت عليه من القواعد, ليسجل السوريون بدم شهدائهم جميعاً رابع المستحيلات.
فياأيها السوريون مهما قالوا ونالوا من ثورتكم فلا تتشككوا بها أو تظنوا السوء بأنفسكم, فأنتم الأنقى والأطهر في ثورة شعبية وطنية نقية طاهرة على حكم عصابة طائفية قذِرة, انطلقت بإذن ربها سيلاً هادراً من أعالي الجبال وعبر الوديان عذباً فراتاً سائغاً للشاربين, وإنما مع طول المجرى وسعته ووقته, جرف معه في طريقه الكثير من الأوساخ والفضلات من المتسلقين واللصوص والمتطرفين والمدسوسين والعملاء وغيرهم “زبداً رابياً”, كذلك يضرب الله حق الثائرين والمناضلين في سبيل حريتهم وكرامتهم بباطل المستبد الفاسد والمجرم القاتل وتوحشه, فأما ماينفع السوريين لسوف يمكث في الأرض, وأما الزبد والوسخ من سوريين وغير سوريين على اختلاف بلدانهم ومذاهبهم واستخباراتهم وانتماءاتهم وأفكارهم وشعاراتهم ومسمياتهم فلسوف يذهب جُفَاءً.
عهد الثوار في يوم ثورتهم الغراء أن يتنظفوا من أوساخ نظام أصابتهم جميعاً بسلوكهم وأفكارهم, ويتطهروا بطهر ثورتهم ويتعطروا بعطرها, وأن يكونوا خميرة أرضهم حرية وكرامة. “سورية بدها حرية, والموت ولا المذلة”.

السابق
سورية بعد 3 سنوات من الرعب لا بد للغرب محب السلام أن يفسر
التالي
ملف الرئاسة (2): ميشال عون.. حلم الرئاسة المزمن