عرب بين زمنين

يتحوّل الإنسان العربي الى متفرّج عاجز أمام شلاّل الصور الدموية المتدفقة الى حياته. مشاهد لا تحجب لأنّ المتابعة صارت حاجة تتقدّم على الحاجات الست لتوازن الشعوب وإستقرارها أي الاطمئنان العاطفي والأمان الاجتماعي والشعور بالقوة والرضى عن الذات وصلابة الانتماء وتأمين التقدّم الحضاري. وتضعنا هذه المشاهد القاسية للتفتيش عن سلطات هذه الشاشة الطارئة في تاريخ العرب المسكونة بالتحريض والترويج للتجزئة والتخريب.ونتذكّر أوّلاً، الصور والنقوش الأولى التي منها اشتقّت الكتابة الهيروغليفية في مصر القديمة والتي يتجاسر المتديّنون المسلمون ولو لفظياً على نسف رونقها وعظمتها بهدف محو التاريخ. ونتذكّر ثانياً، صور الكتابات المسمارية في بلاد ما بين النهرين كيف تحوّلت الى مستنقعات دموية. وقد نتذكّر ثالثاً، العلاّمة إبن منظور في مجلّداته “لسان العرب” التي جاءت بصيغة المفرد لا الجمع بهدف الوحدة اللغوية والدينية والثقافية والحضارية للعرب. ونتذكّر رابعاً كيف إزالت الكاثوليكية معالم الفاشية والنازية ثمّ تحوّلت الصهيونية الى تشويه المسيحية في معانيها وقيمها السامية وجعلتها وكأنها من دون دسم لتتعاون مع الغرب المجوّف على دحض الإلحادية ومنظومة الإتّحاد السوفياتي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتزداد المرارة، خامساً، حيال هذا الحقد المستجدّ المتعاظم الذي يتعاظم بين السنّة والشيعة وبين المسلمين في صيغٍ لا تنتهي آخذاً بتشويهاته البقاع المشرقية الكبرى التي منهما تدفّقت الحضارات نحو الدنيا. إنّ أقسى ما نعاينه وستتذكّره أجيالنا القادمة هو هذا الإمعان المستورد في الإلغاء المتبادل والقتل الوحشي وتكفير الآخرين وقهرهم.

يقودني هذا الواقع المؤلم الى مصطلح الصورة المنفوخة بشبق السلطات والحروب واللامبالاة والتلذّذ بمنظر الدماء والأشلاء والإحتماء بالمغالاة من إعلاميي بثّ الصور والإبتسامات الصفراء وعاشقي البؤس العربي والتخريب. كلنا نرتمي متأملين الفروقات بين ذكرياتنا المجيدة والصور الكوارثية التي تغمر حاضرنا.
قد تكون الصورة أو الـimagos كمحطّة استبدادية معاصرة تعود إلينا ونحن من ولّدها بعد محطتين أساسيّتين قطعها البشر هما أولاً، مبدأي الحياة والموت Eros  و Thanatos ثمّ إستبدادية الزمان بمعنى ال chronos أو منذ اختراع الساعات الفكلية حيث دخل البشر قفص الوقت بالساعة والدقيقة والثانية حتّى صار الإنسان المعاصر يصرخ بأنّ الزمان هو المال: Time is Money
يخرج الإرهابيون اليوم في من رهبة الموت الطبيعي أي من عظمة الحياة  الى مراتب اللذّة في تفجير المدن والأجساد والأطفال والعالم. ويخرجون من مفاهيم الزمان كما يخرجون من مفاهيم التاريخ بمعناه الحضاري والديني القيمي. أصبح زمانهم مغمّساً بالموت ولا وقت خاصّاً لديه، أوهو لا يأخذ وقته العاقل للتقرير في ما هو فيه، ولو أن الجدل والتنابذ والصراعات والإنقسامات تشغله وتأخذ طابع الخلافات المذهبية في التفكير أو التفسير أو السلوك الذي يتعاظم وينذر بزلازل غير متوقّعة. المهم متعة إلغاء الآخر ومتعة روية صورة الإلغاء عبر رفع الأعلام السوداء في الشاشة مهما قست بإسم التظلّل بالدين.
قد يسهل على أيّ منّا التنبّه الى تحوّلات السلطة على مستويات العائلة والوطن والمذاهب والمؤسسات والأحزاب والدفاعات الوطنية والقومية المحكومة اليوم أكثر فأكثر بالصور والشاشات وهذه تعدنا بفواجع المستقبل النفسية والتربوية والسلوكية، وهي ستكشف الأغطية عن المخاطر التي تنتظر إعادة بناء الشخصيّة العربيّة والتماهيات المرضية المقبلة بين الأهل وأبنائهم والدول ورعاياها والأفراد والمجتمعات والسلطات بشكل عام. هل ننبّه هنا بأنّ أجيالنا الشابة باتت مشابهة كثيراُ، بالمعنى القومي، لأجيال التقنيّات الإتصالية التي لا تعيش كثيراً لكنّها لا تعيش إلاّ إذا ألغت بعضها البعض متوهّمةً تحقيقها لصور المعاصرة الدائمة للإنسان الجديد الذي يرضي نهم الدول الكبرى؟ هذا ما نعاينه في سلوك العديد من الإنتحاريين الذين يقاتلون ويقتلون أو يقودون عرباتهم المسروقة الى الموت، كما نعانيه في سياسات الدول الصغيرة التي لا تكاد تبين على الخارطة العالمية تنصاع في كيديتها ومكابرتها الى فلش مساحاتها وطاقاتها للإيقاع بالدول الأكبر تحقيقاً لهوّاماتها الكثيرة وهي تؤسّس لموتها المحتمل في البناء العربي.
قد يسأل واحدنا: هل يمكن كبح جماح شاشة عربيّة متفلّتة من كلّ مسؤولية بإسم مصطلحات مثل الديمقراطية والحريّة؟
لقد حاولت أوروبا قبلنا عندما كانت تتحضّر لوحدتها من تحصين ساحاتها الداخلية وهويات بلدانها المتنوّعة فالتفتت الى مخاطر الشاشات كأولوية، وجهدت إلمانيا لضبط الصورة التي تمرّ من بلدٍ أوروبي الى آخر من دون إحترام لجار أو ثقافة أو تنسيق معه وفشلت الى حدّ كبير، وكان الحلّ بإنشاء قناة أوروبية موحّدة هي ال A.R.T.E. ، التي قد ترضي ببرامجها الجميع  وهي في الواقع لم ترض أحداً في الوقت نفسه. نحن كعرب نكابد زمنٍ الصورة المماثل الذي يسفك دماءنا ويعكسها للعالم وهو ما يستدعينا الى إتّحاد عربي إعلامي يحدّ من حريّات الجزر الإعلامية، لا لوقف النزيف والإنحدار بل لتلمّس بعض المسؤولية تجاه مستقبل أجيالنا بدلاً من ألعاب البهلوانية في أزمنةٍ الثوراتٍ والمستوردات ولملمة قتلانا والجراح.
هي دعوة أكاديمية تحض على استضافة خبراء الإعلام ونجوم الشاشات في لبنان “الميديا ستيت” لمناقشة علنية على الهواء معنى مسؤوليات الصور في صيانة الإبقاء على فتات المستقبل ولملمته، حتّى ولو أبادوا بعضهم البعض.

السابق
الدوائر الضيقة لبشار الأسد لا تتحدث العربية!
التالي
نائب كسرواني سابق: رئاسة الجمهورية بين الفراغ والتمديد