هل تُهدي كردستان الديموقراطيةَ للعراق؟

يخالف التفكير بدور مركزي كردي على المستوى العراقي، مفاهيم اعتبرت راسخة لدى الطرفين، ما يجعل هذا التصور يصطدم برد فعل الكرد والعرب معا، وهو لن يكون مقبولا وفق المداخل المتعارف عليها، خاصة بناء للمنظور الايديولوجي الحزبي الذي ظل يهيمن على الوعي الوطني، طوال القرن الماضي.

المنظور الآنف الذكر جعل فصولا مهمة من تاريخ العراق الحديث، مقصية وغائبة، مع انها لم تخل من حضور مركزي كردستاني، خلال واحد من اهم بداياته الاستهلالية، مع صعود الوالي المملوكي المعروف بمحمد على العراق، داود باشا 1817 ـ 1831. فوصول الوالي الجبار الى الحكم، جاء بقوة الكرد، فهو التجأ قبلها لإمارة آل بابان معارضا ابن خالته الوالي سعيد، ومن هناك كان يراسل الباب العالي، ذاماً سيطرة العرب، الى ان وصل اخيرا، وبمساعدة الكرد، الى بغداد، فاطاح ابن خالته، وحكمها حكمه المشهود.

وفي اوقات مختلفة، وبالذات منذ نصف قرن واكثر، اصبحت كردستان العراق، الموضع الاكثر تأجيجا لمسألة الديموقراطية على المستوى الوطني، على قاعدة الحقوق القومية. فالثورة الكردية التي اتخذت في حينه طابعا مسلحا، لم تكن مغلقة ولا مقتصرة على الكرد، ولم يفت قيادة الاكراد، خاصة الملا مصطفى البارزاني، ان الحقوق الكردية تكون اكثر جدوى وعدالة، اذا غدت عراقية وشاملة، اي اذا تحولت بؤرة حرية ونضال ضد الديكتاتوريات. واتذكر شخصيا عندما كنا نهيئ لانتفاضة الاهوار المسلحة، عامي 1967/ 1968، ان زعيم الثورة الكردية، تبرع لنا بـ 15 قطعة سلاح، ونحن على مشارف بدء انتفاضتنا في جنوب العراق. وقبيل ثورة تموز 1958 اعلن “الحزب الوطني الديموقراطي الكردستاني” رغبته بالانتماء لـ “جبهة الاتحاد الوطني” التي قامت قبل الثورة، ومهدت لها، وحين لم يتم قبوله، اقام تحالفا ثنائيا مع الحزب الشيوعي العراقي، باعتباره احد اطراف الجبهة.

ولن اطيل في ايضاح الوجه العراقي الديموقراطي للثورة الكردية، أو حرصها على أن تكون عامل ايقاظ للمطالب الديموقراطية العراقية العادلة، الأمر الذي لا يمكن حصره، لدرجة انه من المستحيل مراجعة تاريخ الحركة الوطنية العراقية المعاصرة، من دون تحري حضور الثورة الكردية الاساسي في قلبه. الا ان اسوأ ماحدث ضمن هذا التاريخ المليء بالاحداث المهمة، والمصاعب والتضحيات، هو ما آلت اليه الامور لاحقا، وبالذات منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وغدت الولايات المتحدة قوة متفردة عالميا مع بداية التسعينات من القرن الماضي. فالكرد لم يشعروا بأنهم “تحرروا”، الا تحت خيمة التدخل والاحتلال الأميركي. ومع أن الآلام التي تحملوها في الماضي، قد بررت للعامة من الكرد ربما، مثل هذا الشعور الا انها اوجدت في المقابل، حالة من التناقض الغريب. فحرية الاكراد بدت مرهونه بفقدان العراق والشعب العراقي للسيادة والحرية والوحدة. وحيثما حاولت القيادة الكردية ارساء قواعد جديدة مقبولة وثابته للعلاقة مع بقية العراقيين، فانها لم تجد من تحالفهم سوى ممثلين مزورين، معادين للوحدة الوطنية، يحطون من موقع العراق الواحد. وبما ان الكرد كانوا فاعلين اساسيين في اقامة “العملية السياسية الطائفية”، فلقد مارسوا خيارا يكمل الصورة المتناقضة عن دورهم الجديد غير المقبول وطنيا. فـ”العملية السياسية الطائفية” هي الذراع السياسي للاحتلال، ومبرر وجوده، بينما تعني وحدة العراق والدولة المدنية والديموقراطية الحقة، استعادة السيادة والحرية للجميع.
ولقد مرت الى الآن قرابة احدى عشرة سنة على تلك التجربة “الخاطئة” القاسية، ان لم تكن الكارثية من عمر ترتيب سياسي مناقض لطبيعة البلاد، وممزق لها، بينما بدأت القيادة الكردية تشعر بعدم الارتياح لتلك الصيغة، وداخَلَها اخيرا التذمر، الى درجة اعلان تخوفها من عودة نمط جديد من الديكتاتورية، عملت على مواجهتها بالتحالف مجددا مع من تحالفت معهم لاقامة “العملية السياسية الطائفية” التي بدأت تتذمر منها ان لم تكن ترفضها الان، غيران سلطة المركز تمكنت من احباط تلك المحاولات، وعبأت بسهولة الطائفة الشيعية ضد الكرد، واثارت الشكوك حول نياتهم.
واضح ان القيادة الكردية لم تتلمس بعد، ان الولايات المتحدة لم تعد مهتمة بحماية الكرد، وان موقع العراق الجيوسياسي، ومتطلبات التوازن الاقليمي، وتصاعد الارهاب في المنطقة، والتحولات العالمية الاقتصادية الكبرى المتوقعه، وعودة نوع جديد من القطبية الدولية، لن تسمح باستمرار التمزق الداخلي العراقي، ولا بانفصال الكرد، مايجعل خيار العودة للحرب والسلاح مستحيلا، وضربا من الماضي، وكل هذا يلقي على كاهل القيادة الكردية مسؤولية اعادة النظر في كيفية ضمان مصالح الشعب الكردي، الأمر الذي يجدد مرة اخرى ضرورة الترابط بينها وبين مطالب الشعب العراقي ككل. وافضل واسلم مايمكن اللجوء له كرديا اليوم، هو الخروج من الخيار الطائفي، اي من ” العملية السياسية الطائفية”. علما بأنه ليس شرطا أن يأخذ هذا التحول الوطني، لا صيغة العصيان، ولا الاحتراب، فتبني المناداة بالانتقال الى “العملية السياسية الوطنية”، خيار تبرره تجربة السنوات العشر الماضية، وتعثرها الكارثي، ويلتقي مع رغبة القوى العلمانية والمدنية كافة وإرادتها، الامر الذي يعيد مرة اخرى دور كردستان كحاضنة للمطالب الديموقراطية العراقية.
لقد صارمختبرا ان “الفيديرالية” التي ظن الاكراد أنهم سوف يتمتعون بها في ظل “العملية السياسية الطائفية” والاحتلال، لم تعد مضمونة ابدا، وان اتجاه الامريكيين ومعهم روسيا لدعم آليات الوحدة الوطنية العراقية، وتنشيط الاقتصاد العراقي، ستضيق اكثر مثل هذه الإمكانية، وتعرّضها للخطر الاكيد، ما يجعل خيارا مثل “المؤتمر التأسيسي الوطني” الذي تطرحه بعض القوى الوطنية، خيارا ينسجم مع التطورات الدولية الراهنة تماما، وهو فقط الذي يحقق صيغة ثابته ومتينه من صيغ الفيديرالية مستقبلا، ترسى على قاعدة اعادة التفاهم بين مكونات الشعب وقواه كافة، وبهذا تقدم كردستان امكانية وفرصة فعليه لتغيير الاوضاع في العراق في ضوء المستجدات، وتصبح في قلب الخيارات الدولية المستجدة، وتساهم في خدمة مصالح العراق والشعب الكردي.
والأهم من كل هذا، ان الكرد بذلك سيكسبون بصورة كاسحة، تضامن الشعب العراقي ومحبته، وبالاخص العراقيين في المناطق الغربية، والوطنيين في وسط العراق وجنوبه، لان نهجا كالذي نقترحه هنا، وحده يمكن ان يضع الشعب العراقي مجددا على طريق الوحدة، ويوقف التهميش الممارس ضد فئات وقطاعات مهمة، ويضعف مبررات الارهاب وبواعثه، ومثل هذا العمل من جانب الكرد، سيقابل حتما بكل العرفان.
أنا مثلا ممن تصادموا في السنوات العشر الاخيرة، مع توجهات الكرد، ومساهمتهم في تخريب النسيج العراقي، وساظل ماداموا يتبنون هذه الوجهة، اختلف معهم بشدة، كما اناصب “العملية السياسية الطائفية” بكل اطرافها العداء، وهذا ليس موقفي لوحدي، بل موقف كل الوطنيين المنادين بدولة مدنية، وديموقراطية حقة، لادكتاتورية طائفية، تحكمها الميليشيات، وقانون الاستنفار الطائفي المفتعل، والتأزيم المتكرر. فقوى ما قبل الدولة، لا يمكن ابدا ان تحقق الديموقراطية، اما اذا مالت القيادة الكردية لتأييد ورعاية الخيار الديموقراطي، فانني سأكون ملزما بأن انظر اليها كقيادة تاريخية للعراق كله، ولن اكون بذلك مغاليا على الاطلاق، ومثلي سوف يفكر عشرات الالوف من الوطنيين، من كل ارجاء العراق.

السابق
هذا ما حصل في لقاء عون الحريري
التالي
صور الشيعي الكريهة