فلسطين، اليسار، الثورة السورية، و«قوى المقاومة»

النظام السوري تراجع عن نغمة تخوين الشعب السوري بشكل ملحوظ، بعد أن وجد في قضية "الإرهاب الأصولي" طريقة لإقناع الغرب بصوابية ممارساته. بقي أن من تورّط من قوى "اليسار" في البلدين الشقيقين بات مضطراً للموازنة في اتّهام الثورة بالعمالة للعدو، وجنوحها نحو "الأصولية والتطرّف" حتى يُظهر بعضاً من تمايزه.

من بين التهم الكثيرة التي وجّهت إلى الثورة السورية إبّان تفجّرها بعد حادثة أطفال درعا، تهمة “ارتباطها الخارجي”، والمقصود هنا بالتحديد ارتباطها بالعدو الصهيوني، على أساس أنّها لا تخدم غيره. أُربكت الثورة هذا النظام ومن معه فكالوا التهم كيفما اتُّفق في محاولة لرفع الشرعية عن مطالب الشعب السوري بنيل حريته، وحقوقه المسلوبة منذ استيلاء “حزب البعث العربي الإشتراكي” على السلطة في العام 1963، وإلى اليوم.

من يدقّق بالتركيبة الإجتماعية في سوريا ولبنان، سيلاحظ أن هنالك ما لا يقل عن مليون فلسطيني في البلدين الشقيقين، عانوا في سوريا كأشقائهم، وفي لبنان كان الحال أسوأ بكثير.

ومنذ بداية تكوّن التنظيمات الفلسطينية التي أخذت على عاتقها قتال العدو لتحرير ما اغتُصب، برزت مقولة “النضال طويل الأمد”، وهي المقولة التي تبنّتها تنظيمات محلية سورية ولبنانية، لكن دون تحديد جدول زمني واضح، على الأقل لتخفيف مآسي الشعب الفلسطيني الذي يعيش بمخيمات بائسة، استخدمها “المقاومون” في صراعاتهم الدموية التي غالباً ما كان يدفع الثمن فيها أبناء هذه المخيمات. مثل مخيم “تل الزعتر” حيث نفّذ الجيش السوري مجزرة مروعة في العام 1976 إثر خلافه مع ياسر عرفات، أو “نهر البارد” الذي مسح عن الخريطة في العام 2007 بعد المعارك التي خاضها الجيش اللبناني مع منظّمة “فتح الإسلام”، فهجّر أهله للمرة الثانية، أو حرب المخيمات التي خاضتها “حركة أمل” مدعومة بالجيش السوري في العام 1985 ضدّ مخيمات الجنوب اللبناني، أو حتى كمخيم “شاتيلا” حيث نفّذت فصائل اليمين المسيحي مجزرة بحق سكانه في العام 1982 بتغطية مباشرة من جيش العدو الصهيوني.

إذاً، “صراع طويل الأمد” في ظل ظروف مأساوية، مترافقة مع معاملة متماثلة في البلدين الشقيقين، إن لجهة حرمان الفلسطينيين من تملّك البيوت التي يسكنونها، أو لجهة ممارسة العديد من المهن التي كان عددها يفوق (70) مهنة في لبنان. بينما استحدث لهم في سوريا فرع أمني شهي سُمّي باسم قضيتهم: “فرع فلسطين”. وهو الفرع الذي عامل السوري كشقيقه الفلسطيني، واقترنت به عبارة “الداخل مفقود، والخارج مولود”!

أُخِذَ على الثورة السورية عدم انتصارها للقضية الفلسطينية منذ أولى لحظات انطلاقها، ومن المعلوم هنا أنّها لم تنطلق لنصرة فلسطين، ببساطة لأن الشعب السوري مع القضية الفلسطينية قبل الثورة، وبعدها، وهو ليس بحاجة لتأكيد المؤكّد. كما أن الثورة السورية كانت رد فعل شعبي طبيعي على ما فعله ابن خالة بشار الأسد، ولم تكن مخطّطة، أي أنها كانت بلا أي مرجعية سياسية، وكان بإمكان النظام إنهائها بالفعل لو تعامل معها بطريقة حضارية. كان من اتّهم الثورة بعدم انحيازها يبتغي تشتيتها عن هدفها الرئيسي، أي إسقاط النظام الذي دمّر المخيمات الفلسطينية بلبنان، وركّع الفلسطينيين والسوريين في سوريا.

والملفت هنا أنّ النظام تراجع عن نغمة تخوين الشعب السوري بشكل ملحوظ، بعد أن وجد في قضية “الإرهاب الأصولي” طريقة لإقناع الغرب بصوابية ممارساته. بقي أن من تورّط من قوى “اليسار” في البلدين الشقيقين بات مضطراً للموازنة في اتّهام الثورة بالعمالة للعدو، وجنوحها نحو “الأصولية والتطرّف” حتى يُظهر بعضاً من تمايزه.

هنا بالضبط تبرز المآخذ على هذه القوى، التي رفعت، وتبنّت، وصمتت، ووافقت على شعار “النضال طويل الأمد” دون أي رؤية أو تحديد لهذا الأمد، ودون تقديم أي مساعدة للشعب الفلسطيني الذي يجب أن يُحافظ على صموده في مخيماته حتى تحين لحظة العودة، فكيف وقد دمّر النظام السوري هذه المخيمات، قصفاً، وتجويعاً، وحصاراً، وتهجيراً جديداً دون سماع أصوات المدافعين عن القضية؟!

ومن المآخذ، أنه في ظل ضعف بنية النظام الذي كان يحتكر قرار الحرب والسلم مع العدو، وانشغال حلفائه الذين كانوا يعيقون قوى “اليسار” أثناء العمل المقاوم، بالقتل، والتصفية، والإعتقال، بقيت قوى اليسار صامتة ساكنة، مع أن الفرصة مواتية تماماً لإستعادة الجبهات. وإذا جاز التكهّن، فإنّ بضعة أسباب تمنعهم عن ذلك، منها: أولوية مواجهة الشعوب على العدوّ، أو أنّهم بلغوا من الضعف ما يعيقهم عن المبادرة، أو أضاعوا البوصلة، أو تحولوا إلى جزء من المنظومة المستفيدة من أنظمة الحكم التي وقفوا إلى جانبها، وقد يكون كل ذلك معاً.
سؤال ضروري هنا، يجب أن يُطرح: ماذا لو فتح النظام السوري الجبهة مع العدو؟ وهو سؤال يوضّحه سؤال آخر: لماذا لم يفتح النظام الجبهة مع العدو؟

بالإجابة على هذين السؤالين يسهل فهم موقف قوى “اليسار”. لو فتح النظام الجبهة لكانت قوى اليسار مجبرة على المشاركة، أي أن النظام مدخلها الطبيعي للقضية الرئيسية. هذا هو حجمها، وهذه هي حدودها.
أمّا لماذا لا تفتح الجبهات نظاموياً، فهذا سرّ الأسرار، به يُدعّم النظام موقفه شعبياً لو حصل، وهذا ما يخشاه، لأن كسب شعبه من خلال القضية الفلسطينية مغامرة دولية غير محسوبة ستكسر قاعدة “اللاحرب، واللاسلم” وهي (هذه القاعدة) ضمانة استمراره والرضى الخارجي عنه، بكسرها يكون قد خطّ حكم إعدامه بيديه.
هذا مأزق باتت تتشاركه معه قوى “اليمين” و”اليسار” على حدّ سواء، بلا أي تميّز، أو تمايز فيما بينها، فسقوط النظام يُسقطها، وسقوطها يُسقطه.

السابق
الحزب العربي الديموقراطي: وقف اطلاق النار مقابل ضمانات
التالي
الزعبي: الابراهيمي تجاوز مهمته بالحديث عن الانتخابات الرئاسية السورية