«الدولة» المستباحة في المشرق العربي

بعد أن تمكن القوميون، في كل من سورية والعراق، من الانقلاب على مسار تشّكل الدولة الوطنية في المرحلة التي أعقبت استقلال كل منهما، استقر الوضع في المشرق العربي على نموذجين لـ «الدولة»: الأول، «دولة» التحاصص الطائفي والمذهبي (النموذج اللبناني). الثاني، «الدولة – التسلطية» في شكلها البعثي وخطابها القومي ومضمونها المذهبي.
اختلاف النموذجين في الشكل لا ينفي ارتباطهما بذات المحتوى، وانطلاقهما من مقدمات متماثلة. فالنموذجان يحيدان عن نظرية الدولة والمفاهيم المرتبطة بها، كما ظهرت في منظومة الحداثة التي أنتجتها. لذا ينتهك النموذجان مبدأ حياد الدولة تجاه الأديان والمذاهب والجماعات والأحزاب والأيديولوجيات والأفكار المختلفة. ويستبيحان مبدأ المواطنة، وهو من مبادئ الدولة الناظمة، عندما ينظران إلى البشر، لا بصفتهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات أمام القانون المجرد، بل من خلال انتماءاتهم الطائفية والعرقية والأيديولوجية والسياسية.
كذلك لا يقوم النموذجان على مبدأ التعاقد الاجتماعي، بمعناه الجان جاك روسي، الذي هو عقد بين مواطنين أحرار تحرروا من روابطهم الأولية ما قبل الوطنية، وجعلوا من انتمائهم للدولة الوطنية مبدأً حاكماً على جميع الانتماءات الأخرى. مع غياب مبدأ التعاقدية، يغيب الدستور المؤسس للوطنية، وينتهك القانون بصفته العامة والمجردة، وبوصفه ماهية الدولة التي توصف في علم الاجتماع السياسي: بأنها دولة حق وقانون. لكن أخطر ما يسم هذين النموذجين هو تحول «الدولة»، سواء من خلال صفة التحاصص الطائفي، أو من خلال مبدأ الغلبة الطائفية، إلى أداة رئيسية في عملية التحاجز الاجتماعي، وإنتاج عناصر الحرب الأهلية، وهذا يتناقض كلياً مع وظائف الدولة التي يقف في رأسها: خلق مجال سياسي مشترك بين جميع مواطنيها.
ونقل انقسامات المجتمع الأهلي العمودية إلى المجال السياسي، نتيجة عدم تشكل ثنائية مجتمع مدني/ دولة – أمة، هو السبب الأساس الذي يقبع في خلفية الاحتراب الأهلي في كلا النموذجين. كانت الحرب الأهلية اللبنانية تنفجر عندما كان يُخرق التوازن الطائفي القلق والحرج الذي عبر عنه «ميثاق 43». هذا ما حدث عام 1958 وما تكرر حدوثه في الحرب الأهلية عام 1975، فالتوازن الطائفي الهش حمل على الدوام احتمالات الانفجار. أما في النموذج «التسلطي- البعثي» حيث كان احتكار السلطة والثروة مطلقاً، وارتدت ظاهرة الغلبة المذهبية، المغلفة بشعارات قومية، في قلب هذا الاحتكار، طابعاً قهرياً وإذلالياً، لم يُتح للسوريين وللعراقيين تجاوز واقعة الاستلاب المتعدد الوجوه هذا تجاوزاً سياسياً، رغم محاولاتهم ذلك، فنجح الاستبداد بخلط المطالب الشعبية المحقة مع واقعة التشظي الاجتماعي.
كان لانطلاق تجربتي «الدولة» من ذات المقدمات، وعدم مطابقة حدود «الدولة» المستباحة حدود الوطنية، الأثر الحاسم في وصول البلدان المشرقية إلى نتائج مجتمعية متماثلة:
أولاً، طفت بقوة على السطح ظاهرة الطوائف العابرة لـ «الحدود الوطنية»، فبتنا أمام حالة تفسخ «للوطنيات» الهشة التي تشكلت أعقاب مرحلة الاستقلال، وذلك لأن الطوائف كانت الأدوات الرئيسية في آلية اشتغال «الدول» القائمة. وما يجري الآن في المشرق العربي، هو سيرورة نكوص إلى ما قبل الوطنية.
ثانياً، إبان مرحلة ما بعد الاستقلال، مع فشل المجتمعات المشرقية من بلورة ثنائية دولة وطنية/ مجتمع مدني، أُفسح في المجال لبروز ظاهرة الاختراق الخارجي لتلك المجتمعات، عبر «الطوائف المقتلعة وطنياً»، وهذه الأخيرة ملازمة بالضرورة لواقعة «الوطنيات الهشة». ألم يتم الاختراق الإيراني للعراق وسورية ولبنان من خلال حالة «الاقتلاع الوطني للطوائف»؟
ثالثاً، إن المقدمات المتماثلة لنموذجي «الدولتين»، تجعل كل نموذج منهما يستبطن فكرة وآليات التحول إلى النموذج الآخر، حيث تساهم ظاهرة التخلع الاجتماعي في ذلك. ألم تتحول «الدولة» العراقية بعد سقوط صدام إلى شكل من أشكال المحاصصة المذهبية المولدة باستمرار لعناصر الحرب الأهلية؟ كذلك ألا تستبطن الحرب الدائرة في الوضعية السورية نموذج المحاصصة عند أغلب القوى المتحاربة؟ أليس الحديث المتكرر عن حماية الأقليات في الإعلام هو الشكل الملطف عن هذا الاستبطان؟
في المقابل إن سلوك «حزب الله» بدمج الوضعية المذهبية بشعارات المقاومة والدفاع عن «الأمة»، واحتكاره قراري السلم والحرب، واندراجه في منظومة إقليمية فوق وطنية، يشي باستبطان النموذج السوري، لكن الحضور الوازن للطوائف في لبنان، لحسن الحظ، يمنعه من الوصول إلى الحدود القصوى في نهاجية الهيمنة. ألا يمثل ميشال عون والقوميون السوريون وبقايا الناصريين واليسار وبعض كسور السنّة في صيدا وطرابلس «الجبهة الوطنية التقدمية» لحزب الله؟
رابعاً، إن الاستبداد والاحتكار والإقصاء هي صفات ماهية النموذجين، بصرف النظر عن كون هذه الصفات في نموذج «الدولة- التسلطية» في أيدي أوليغارشية مذهبية ومالية مركزية، أما في نموذج التحاصص فهي موزعة بين أوليغارشيات طائفية متعددة.
يدعو مسار تفسخ «الوطنيات» الهشة الذي تشهده بلدان المشرق العربي إلى القول: إن قضية العرب المركزية في القرن الحالي يجب أن تكون بناء دول وطنية ضمن الحدود التي رسمتها اتفاقيات «سايكس – بيكو».

السابق
إقليم اللحم المشوي
التالي
طلَّق أغنى امرأة في بريطانيا.. لأنه لا يحب أن يكون ثرياً!