فضل الله من على منبر الجمعة:لسدّ المنافذ على المصطادين بالماء العكر

ألقى السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، لنحصل على ما وعد الله به المتقين: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}. ولبلوغ التقوى، علينا أن نتعظ بما ورد في هذه القصة، حيث يحكى أن رجلاً كبيراً في السن قضى حياته في اللهو والعبث، مر يوماً بمقبرة، وراح يتجول بين قبورها، ويقرأ ما كتب عليها، فلاحظ أن أغلب الموتى لا تتجاوز أعمارهم الشهور والأيام والسنوات القليلة، فسأل رجلاً عن سبب صغر سنّ هؤلاء الأموات، وعن سر هذه الظاهرة الغريبة، فقال له: إن أهل هذا البلد يختلفون عن بقية الناس، فهم لا يحسبون أعمارهم بما عاشوا من الزمن، بل بما قاموا به من أعمال، وما تركوا من آثار. هذا الأمر هز الشيخ الكبير في السن، فراح يبكي على عمره الطويل الذي تجاوز التسعين، والذي لم ينتج خلاله شيئاً. فقال للرجل: إذا قدِّر لي أن أدفن في هذه المقبرة، فاكتبوا على قبري: “رجل قفز من رحم أمه إلى القبر”.

أيها الأحبة، لنسأل أنفسنا: كم هو عمرنا بحساب أهل هذه القرية؟ وهذا القياس ليس مقياس أهل هذه القرية فحسب، بل هو مقياس الله أيضاً، حيث الجزاء عنده بالأعمال والآثار، لا بالأعمار، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.

بالعمل وحده نقوم بمسؤوليتنا، ونكون قادرين على الإجابة عندما ينادي المنادي: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}. وبالعمل وحده نواجه التحديات، وما أكثرها!

 والبداية من لبنان، حيث لا تزال الحكومة عالقة في مفردات بيانها الوزاري، في الوقت الذي تزداد  معاناة اللبنانيين في الداخل، ويتفاقم خوفهم من انعكاس ما يجري في محيطهم عليهم، في ظل تصاعد الصراع في سوريا، وتلبّد جو العلاقات الإقليمية والدولية، ودخول أزمة أوكرانيا على خط هذه العلاقات.

ومن هنا، نجدّد الدعوة إلى كل القوى السياسيّة، إلى الإسراع في إنهاء البيان الوزاري، وحل القضايا الخلافية، أو تركها لحوار داخلي، ولا سيما أن هذه القضايا كانت مطروحة على جدول هيئة الحوار الوطني. إنَّ الجميع يعرف أن المسألة التي وجدت الحكومة لأجلها في وقتها القصير، تتمثل في معالجة الوضع الأمني في الداخل، والالتفات إلى الواقع المعيشي الصعب، والسعي لتأمين الاستحقاقات القادمة، سواء الرئاسية أو النيابية. ونحن على ثقة بأن قوة الدفع الإقليمية والدولية والداخلية، التي ساهمت في تأمين ولادة الحكومة، رغم التعقيدات التي كانت تحيط بها، ستساهم في الخروج من نفق البيان الوزاري وتداعياته.

وفي إطار الجدل حول المقاومة وأهمية دورها، فإننا لا نعتقد أن أحداً من اللبنانيين، ولا سيما من هم في مواقع المسؤولية العليا، يستطيع أن يتنكر لدورها وأهميتها، وللتضحيات الكبيرة التي بذلتها مع شعبها، والتي كانت دائماً متلازمة مع تضحيات الجيش اللبناني، والتي لم تكن إلا لأجل الوطن وحريته وعزته.

هذه المقاومة أعزَّت لبنان، ومنعته من أن يكون ممراً للعدو ومستقراً له، ليوجه من خلاله الرسائل إلى من يهمهم الأمر هنا وهناك، فجعلته يفكّر كثيراً قبل أن يُقدم على أية خطوة مماثلة، لأن الأثمان التي سيدفعها ستكون كثيرة وباهظة.

إن مقاومة كهذه، لا بد من أن تكرَّم وتقدَّر، وتدعم على كلّ المستويات، فالحاجة إليها لم تنتفِ، حتى يأتي البعض ليصرح بأننا استغنينا عنها بعد القرار 1701، وخصوصاً أنَّ هناك أراضي لبنانية لا تزال في قبضة الاحتلال، ولا يزال العدو يتهدَّد ويتوعَّد لبنان، ثأراً لهزيمته السابقة، وتحقيقاً لأطماعه.

وعندما تنتفي الحاجة إلى المقاومة بزوال تهديد الكيان الصهيوني، أو لكون الجيش اللبناني بات قادراً وحده على تشكيل توازن الرعب مع هذا العدو، كما نأمل، فبالطبع، ستكون المقاومة حاضرة، كما أعلنت قيادتها، لتترك الساحة للجيش. وإذا كان البعض يطرح بعض الهواجس، في كيفية ضمان عدم تفرّد المقاومة في قرار الحرب والسلم، أو عدم تحول السلاح بعيداً عن موقعه الطبيعي، فإننا ندعو إلى أن تطرح هذه الهواجس، لا من خلال المنابر، والتصريحات النارية، أو الاتهامات الظالمة، بل من خلال حوار داخلي يجري داخل الحكومة، أو من خلال هيئة الحوار الوطني. ونحن نرى أنَّ أي حوار موضوعي هادئ، يلاحظ المصلحة الوطنية، سيساهم في الوصول إلى نتائج حاسمة، وتحقيق ما يصبو إليه الجميع، من استراتيجية دفاعية تحمي البلد وتصونه.

إن لبنان في هذه المرحلة بأمس الحاجة إلى الكلام الجامع الموحّد، لا الكلام المستفز والمثير، فمن حق كل فريق أن يكون له رأيه السياسي، ولكن المسؤولية الوطنية تستدعي من الجميع اتباع الأسلوب الأحسن، وقول الكلمة الأحسن.

إن القضايا الكبيرة والمصيرية لا تطرح على المنابر، بل في الغرف الداخلية ومواقع الحوار، ولا ينبغي أن تستغل لكسب جمهور من هذا الفريق أو ذاك، وتسجيل النقاط على بعضنا البعض، بل لتأمين استقرار الوطن وصون أمنه.

ونعود إلى فلسطين، الَّتي نعيد التذكير بها، حتى لا تنسى وسط تصاعد الضغوط الصهيونية على الشّعب الفلسطيني للتنازل عن حقوقه، وعلى البلد لتغيير معالمه وتهويده. وفي هذا المجال، فإننا نعيد دعوة الشعب الفلسطيني إلى الوحدة، لمواجهة كل هذه المخططات، كما ندعو الدول العربيّة والإسلاميّة إلى إبقاء عينها على فلسطين، وإلى أن لا تنسى العدو الصهيوني وجرائمه، لتحول وجهتها باتجاه عدو آخر عربي وإسلامي مصطنع.

 ونحن نأمل من مصر، التي كانت دائماً داعمة لفلسطين والفلسطينيين، أن تقارب الموضوع الفلسطيني، وخصوصاً أوضاع غزة، بطريقة تحفظ مقاومة الشعب وصموده، وتلبي تطلعاته نحو الحرية، وذلك انسجاماً مع دور مصر الكبير والحاضن، ليس لفلسطين فحسب، بل لكل مكونات الأمة وقضاياها أيضاً.

 أما البحرين، فإننا نشدّد على السّلطة هناك، الإسراع بتفعيل الحوار الداخلي الجاد، الذي أطلقته قوى المعارضة ورحّبت به، لسدّ المنافذ على الذين يسعون للاصطياد بالماء العكر، حيث لا حل في البحرين، ولا في كل عالمنا العربي والإسلامي، إلا بالحوار الهادئ والبناء.

 وفي عيد المعلم الّذي يمر علينا هذه الأيام، لا بدّ من أن نتوجه جميعاً إلى المعلمين بالتهنئة بعيدهم، آملين أن لا تكون هذه المناسبة هي المناسبة الوحيدة لتكريم المعلم، بل أن يكون تكريمه في كل يوم،  بتقدير دوره وموقعه مادياً ومعنوياً، فمن أحقّ بالتكريم ممن يبني العقول، ويعزز القيم، ويساهم في بناء الأوطان! ويكفي المعلم شرفاً أن يقول رسول الله(ص): “إنما بعثت معلماً”.

وأخيراً، إننا في ذكرى مجزرة بئر العبد؛ هذه المجزرة التي تمر في الثامن من آذار، والتي أريد من خلالها اغتيال الرمز الَّذي شكّل تحدياً مباشراً للمشروع الصّهيوني والاستيطاني، وكان المحفّز والباعث والمحرك لروح المقاومة في النّفوس، والمقاومة شاهدة بقياداتها وعناصرها وشهدائها على ذلك. إننا في هذه الذكرى، نستعيد فكر سماحة السيد(رض)، لنؤكد السير في خطه، وهو الذي قدَّم أغلى التضحيات من أجل الإسلام الحركي الوحدوي الفاعل والمنفتح على الأمة وقضايا العصر.

السابق
سر الجمال في “ريجيم القمر”
التالي
الأم اغنيس:الاتصالات مع الراهبات المخطوفات انقطعت