الأزمة الأوكرانية .. الحرب أم التسوية

حدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، توجهاته المقبلة تجاه الأزمة الأوكرانية المعقدة في مؤتمر صحافي عقده في الرابع من آذار الجاري. فبالنسبة إليه، يظل الخيار مطروحاً كملاذ أخير، مع نفي ما يتردد عن إدخال قوات روسية إلى شبه جزيرة القرم حتى اللحظة. ويرى بوتين أنه إذا «اضطر» لإدخال قوات روسية إلى الاراضي الأوكرانية، فسيكون هذا شرعياً، ما دامت الولايات المتحدة الأميركية قد قامت بمثل هذه التدخلات في السابق. ويستند بوتين أيضا في شرعية هذا «التدخل المُحتمل» إلى طلب رسمي من الرئيس المخلوع فيكتور يانوكوفيتش للقيادة الروسية. لذلك شدد الرئيس الروسي على أن بلاده ما زالت تعتبر يانوكوفيتش الرئيس الشرعي لأوكرانيا، وأنها لا تعترف بحكومة كييف الحالية. ولذلك حرص في مؤتمره الصحافي على توصيف ما جرى في أوكرانيا كانقلاب على الشرعية الدستورية. يضاف إلى ذلك أن الرئيس الروسي أعلن من دون مُواربة «أن بلاده لن تعترف أيضا بنتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة في أوكرانيا إذا جرت في أجواء الإرهاب، الذي تشهده العاصمة كييف»، في إشارة إلى الجماعات القومية الأوكرانية المتشددة المسلحة.

وفي ما يتعلق بالقرم، أكد بوتين أن «روسيا لا تناقش إمكانية انضمام القرم إليها، مشددا على أنه لا يحق لأحد إلا للمواطنين الذين يقطنون هذه الأراضي أو تلك أن يقرروا مصيرهم وذلك في ظل حرية التعبير والأمن». وهذا يعني ترك أمر تحديد مصير القرم لسكانه، الذين تبلغ نسبة الروس بينهم نحو 60 المئة. ونعتقد أن ضم القرم إلى روسيا بات وشيكاً، خاصة في ظل توجه المجلس الأعلى لهذه الجمهورية الذاتية الحكم في إطار أوكرانيا إلى موسكو بضرورة بدء عملية الانضمام، وفي ظل مشروع قانون يعده البرلمان الروسي حاليا لتسهيل عملية ضم أجزاء من دول أخرى إلى الاتحاد الروسي. ويمكن أن يحدث ذلك اعتماداً على العامل الديموغرافي، وعبر منح الجنسية الروسية لسكان القرم وضخ أموال واستثمارات روسية في شبه الجزيرة. فالحديث يدور حاليا عن نحو 6 مليارات دولار من موسكو إلى القرم، وبناء جسر بري يربط الأراضي الروسية مباشرة بها. وتعول موسكو على العامل الديموغرافي أيضا في مناطق شرق وجنوب أوكرانيا بهدف «حماية الروس والناطقين بالروسية»، على حد تعبير القيادة الروسية.
وتوقف بوتين ملياً عند التهديدات الأميركية والأوروبية بفرض عقوبات اقتصادية وغير اقتصادية على بلاده، محذراً من أن مثل هذه العقوبات ستضر جميع الأطراف. وهذه حقيقة لأن أوروبا ما زالت تعتمد اعتماداً كبيراً على الغاز والنفط الروسيين. فالاتحاد الأوروبي يعد من الشركاء الاقتصاديين والتجاريين الكبار لروسيا، حيث تبلغ حصته في التجارة الخارجية الروسية نحو 50 في المئة. ونلاحظ هنا أن موارد الطاقة تمثل أساس هذه العلاقات عموماً، فحوالي 36 في المئة من الغاز المستورد، و31 في المئة من النفط، و30 في المئة من الفحم يذهب إلى بلدان الاتحاد الأوروبي من روسيا. وتصدر روسيا، بدورها، إلى بلدان الاتحاد الأوروبي حوالي 80 في المئة من إجمالي صادراتها النفطية، و70 في المئة من إجمالي صادراتها من الغاز، و50 في المئة من إجمالي صادراتها من الفحم. وبهذا الشكل يوفر التعاون مع الاتحاد الاوروبي إيرادات مهمة للغاية في خزينة الدولة الروسية. وتحتل روسيا حاليا المركز الثالث بعد الولايات المتحدة والصين في التجارة الخارجية للاتحاد الأوروبي بحصة تعادل 7 في المئة في صادراته و11 في المئة في وارداته. وتمثل موارد الطاقة الخام نحو 75 في المئة من صادرات روسيا إلى دول الاتحاد الأوروبي، بينما تؤلف حصة الآلات والمعدات الروسية (السلع الاستثمارية) أقل من 1 في المئة. في الوقت نفسه يصل من بلدان الاتحاد الاوروبي إلى روسيا منتجات البتروكيماويات (18 في المئة) والمواد الغذائية (10 في المئة) والسلع الاستثمارية والتكنولوجية من معدات وآلات (حوالي 45 في المئة). وفي ما يتعلق بالتعاون الاستثماري، فإن 70 في المئة من الاستثمارات الأجنبية المتراكمة في الاقتصاد الروسي تعود عمليا إلى دول الاتحاد الأوروبي. وهذا يعكس الارتباط العضوي بين الاقتصاد الروسي واقتصاد بلدان الاتحاد الأوروبي. علاوة على ذلك، فإن التبادل التجاري بين روسيا والولايات المتحدة يزيد عن 40 مليار دولار، ويتعاون البلدان تعاوناً كبيراً في مسائل الأمن ونزع السلاح ومكافحة الإرهاب. كما أن واشنطن وحلف شمال الاطلسي يعتمدان منذ عدة سنوات على نقل المعدات العسكرية وغير العسكرية عبر روسيا إلى أفغانستان، حيث من المتوقع أن تلعب روسيا دوراً غير قليل في تقديم المساعدة عند سحب القوات الأميركية من هذا البلد.
في الوقت نفسه، ترك بوتين الباب مفتوحاً أثناء مؤتمره الصحافي أمام احتمالات التسوية السياسية في أوكرانيا وفق التوجهات العامة المذكورة أعلاه. ويمكن القول إن الرئيس الروسي سينتظر بعض الوقت ليرى رد الفعل الغربي، ورد فعل سلطات كييف الحالية. ويتكون انطباع أن بوتين، في حال تصعيد التوتر حول أوكرانيا أكثر من قبل الغرب، فإنه لن يتردد في إدخال قواته إلى الأراضي الأوكرانية حيث يُمسك بين يديه بأوراق ضغط كثيرة حاليا. ويدل على ذلك اعتراف الرئيس أوباما ووزير خارجيته مؤخرا بأن لروسيا الحق في الدفاع عن مصالحها في أوكرانيا بــ«الطرق الديبلوماسية». أما في ما يتعلق بشبه جزيرة القرم، فنعتقد أن روسيا أحكمت سيطرتها عليها بالكامل بفضل الأكثرية السكانية الروسية فيها. ويبدو أن موسكو تدرس حاليا مبادرات غربية متعددة حاليا تقضي بإدخال مراقبين من منظمة الأمن والتعاون الأوروبي إلى القرم وشرق أوكرانيا للتأكد من عدم التعرض من قبل سلطات كييف الجديدة للروس أو الناطقين بالروسية في تلك المناطق. ولكن مثل هؤلاء المراقبين كانوا من قبل في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا لفترة زمنية طويلة، ولم يمنع هذا من اندلاع الحرب الروسية الجورجية في العام 2008 واعتراف موسكو اللاحق بهذين الإقليمين كدولتين مستقلتين عن جورجيا. إن الأزمة الأوكرانية الحالية بين روسيا والغرب هي الأكثر تعقيداً على مدار العشرين عاماً الأخيرة، وقد تكون بوابة لحرب لا تُحمد عقباها أو بوابة لتسوية ما على حساب الشعب الأوكراني. وفي كلتا الحالتين قد تكون هذه الأزمة بوابة لـ«تثبيت» وضع جيوسياسي جديد بين «أقطاب رأسمالية» متصارعة على الأسواق والمصالح، وهو ما يذكرنا بما كانت عليه الحال مطلع القرن العشرين وما قبله، ولكن في ظل ظروف اقتصادية وتقنية مغايرة كثيرا.

السابق
ثلاثية رئاسية ناقصة
التالي
ارتفاع اسعار النفط في آسيا