(نظرية) علي مملوك

ماهر شرف الدين

قبل أشهر من اندلاع الثورة في حوران، سرَّب موقع “ويكليكس” برقية مهمة جداً تحدّثت عن اجتماع سرّي جرى بين مدير المخابرات السورية علي مملوك ودانيال بنجامين منسّق مكافحة الإرهاب في الإدارة الأميركية بتاريخ 18 شباط 2010. وكانت النقطة الأهم في الاجتماع هو قول (اقرأ: اعتراف) علي مملوك بأن المخابرات السورية استطاعت اختراق العديد من الجماعات الإرهابية. فقد نقلت البرقية قول مملوك لبنجامين: “من حيث المبدأ نحن لا نهاجمهم أو نقتلهم على الفور، بل نقوم باختراقهم ونقوم بالتحرك في الوقت المناسب”!
في هذا السطر المقتضب الوارد في البرقية على لسان مملوك، نقع على زبدة النظرية الأمنية للنظام السوري بخصوص الجماعات المتشدّدة، حيث الدخول إلى تلك الجماعات والتحوّل إلى جزء منها، وهو ما يُسمَّى “الاختراق”، وهو ما سيوفر مميزات عديدة للمخترِق – بكسر الراء – بينها ميزتان رئيستان:

الأولى: تنفيذ ضربات إرهابية ضدّ الخصوم (الأميركيون في العراق، السياسيون المعارضون في لبنان…) من دون تحمّل أي تبعات.
الثانية: حماية النظام بطريقة استباقية فعّالة، لجهة أن النظام بهذا الاختراق بات قادراً ليس فقط على التجسُّس على تلك المجموعات، بل أيضاً بات قادراً على توجيهها، وإن بشكل نسبي.

مثل هذه التقنية التي تشبه حالة المراقبة في العتمة (حيث يكون في وسعك مراقبة الآخرين من دون أن يتمكنوا من مراقبتك) صنعت دوراً إقليمياً للنظام السوري أجبر الأميركيين في فترات متعددة على طلب التعاون السوري… وهذا التعاون – كما نعرف – صرفه النظام في السياسة. وعموماً فإن الأدوار الأمنية في منطقة ملتهبة كمنطقة الشرق الأوسط غالباً ما يكون مردودها السياسي كبيراً جداً. أضف إلى ذلك أن علي مملوك نفسه قام بمثل هذا الربط – وفق البرقية – حين طلب “أن يكون العمل السياسي جزءاً من عمليات مكافحة الإرهاب”.

وأرجو من القارئ أن يعطف هذا الطلب على طلب وفد النظام في مؤتمر “جنيف 2” بجعل مسألة مكافحة الإرهاب عنواناً سياسياً للمؤتمر.
اليوم تزداد أهمية تلك البرقية في فهم حالة الفوضى التي أنتجها النظام كحلّ أخير لتفجير الثورة السورية من داخلها.

فجأة، نقرأ خبراً عن هروب كبير لقادة “القاعدة” من سجن أبو غريب العراقي! بعد ذلك يؤكد مسؤولون عراقيون كبار تورّط نوري المالكي في عملية الهروب تلك، لنكون أمام عملية تهريب لا عملية هروب! القادة “القاعديون” الهاربون من أبو غريب صاروا في سوريا… وتحديداً في تنظيم “داعش”. الجيش الحر يجد نفسه مضطراً للاختيار بين حربين: إما “داعش” وإما النظام. تقدُّم الثوار يتوقّف بعدما انشغلوا بمعركتهم الداخلية مع “داعش”. عملية خلط خبيثة بين شكل الثورة ومضمون الإرهاب، ثم: بين مضمون الثورة وشكل الإرهاب.
الأميركيون وحلفاؤهم الغربيون فهموا خدعة النظام، لكنهم ادَّعوا تصديقها لأنهم غير راغبين في الانخراط في اللعبة ما دام الفعل يتطلّب ما هو أكثر من الضربة الجوية. هل لعاقل أن يظن بأن أميركا يمكن أن تُسقط النظام من دون توافر البديل الجدّي لتترك سوريا نهباً للفوضى ولتأسيس المزيد من “القاعدات” (جمع تنظيم “القاعدة”)؟ الكلفة الحقيقية ليست في ثمن صواريخ “توماهوك” الكفيلة بإسقاط عشرة أنظمة من شاكلة هذا النظام، بل في ثمن ضمان الاستقرار في سوريا بعد إسقاط النظام. إطلاق “توماهوك” يعني تجهيز الآلاف من الجنود المشاة لاحتلال الأماكن الحساسة في سوريا لضمان ضبط الإيقاع الأمني فيها. أوباما غير مستعد لذلك ما دام وعده الرئاسي الأبرز يتلخّص في سحب الجنود الأميركيين من الدول الملتهبة.

النظام فخّخ الثورة من الداخل حين فتح سجونه لإطلاق المتشدّدين في مقابل قيامه باغتيال الناشطين المدنيين. قضى على المجتمع المدني مُضعفاً المناعة في المجتمع الأهلي، وبالتالي مُفسحاً المجال لقيام حراك مسلّح ترتّبت عليه ثلاث نتائج هي في الحقيقة ثلاث مراحل: أولاً القضاء على المرحلة السلمية، ثانياً تحويل الثورة إلى مجرّد نزاع مسلّح، ثالثاً وضع المجتمع الدولي بين خيار “أنا أو الفوضى”… هذه الجملة التي لا يكفّ بشار الأسد عن الإيحاء بها في حواراته كلها… هذه الجملة التي لا يمكن قراءتها إلا في ضوء “النظرية” الرهيبة لعلي مملوك.

 

السابق
تفجير بئر حسن الثاني مزدوج: بدأ استهداف «خواصر» الضاحية
التالي
العثور على دفتر قيادة سيارة في مكان الانفجار الاول