رؤية في الدين والإبداع والحرية (2)

العلامة محمد حسن الامين
إن أكثر ما يعرِّض الإنسان للعقوبة الإلهية هو التنكُّر لشرط الحرية فيه. إن عقدة التحريم والخوف من الحرية كما تراكمت في ذلك الفرد والجماعة عبر تاريخنا العربي والإسلامي ليس الدين بريئاً منها فحسب وإنما ضحيتها. إن مصادرة الإبداع بحجة الخوف على الدين كانت تنتهي إلى مصادرة الدين نفسه ولتحويله طقوساً فارغة تارة ومادة قهر واستلال في أيدي السلاطين والمتنفذين طوراً.

إنني كمسلم وبموجب قواعد الحرية، لا أستطيع أن أقمع عملاً أدبياً يتنافى أو حتى يتناقض مع ما أعتقده من مبادئ إسلامية ومن قيم ومفاهيم مرتبطة بها غير أن قواعد الحرية لا تحمي هذا العمل الأدبي في مثل هذه الحالة في المطلق. بل تتيح لي كامل الحرية في نقده وتفكيكه وكشف عوامل ضعفه وافتقاره إلى الدقة والبرهان والمنطق.

ولكن لو تضمن هذا العمل الأدبي شتائم أو تحقيراً لعقيدتي الإسلامية كرواية سلمان رشدي (آيات شيطانية) فهل يصح التذرع بقواعد الحرية لحماية رشدي وروايته. إن سلمان رشدي لم يستحق الحكم الصادر بسبب انتقاده لعقيدة الإسلام ولا حتى بسبب رفضه هذه العقيدة بل بسبب انتهاكه قواعد الحرية نفسها. ما أكثر الذين انتقدوا الإسلام وشككوا في صحة عقائده ومبادئه فلم يكن ذلك مسوّغاً للحكم عليهم بالعقوبة. إن الشتم والتحقير أخرج رواية سلمان رشدي عن كونها عملاً أدبياً بعدما تخلت عن قاعدة أساسية من قواعد الحرية الملزمة باحترام عقيدة الآخر ومقدساتها رغم الاختلاف معها.

إن الخوف من سوء استخدام الحرية لا يبرر قمعها ولا مصادرتها ولا حتى وضع الحدود والقيود في وجه استخدامها وخصوصاً في مجال الإبداع الفكري والأدبي. كما إن الحرص على الإسلام عقيدة ومبادئ وبوصفه مشروعاً حضارياً فضلاً عن كونه لا يتنافى مع حرية التفكير والإبداع، فإنه يلزمنا بإعادة النظر في موضوع الحريات عموماً وحرية الإبداع في صورة خاصة. إن الحضارة الإسلامية لم تتراجع بسبب فائض الحرية التي امتلكها المفكرون والعلماء والفقهاء والمبدعون. وإذا شئنا أن نفضح عقدة التحريم الكامنة في الذات العربية والإسلامية التي أدّت إلى نضوب الإبداع في هذه الذات فإننا نستطيع أن نعريها من أي شرعية دينية إسلامية.

لقد أعلن الإسلام حرية الكائن الإنساني حين أسقط كل عبودية تحول بين الإنسان والمطلق الذي هو الله سبحانه وتعالى. فمشكلة الإنسان التي تقوم بينه وبين أسمى أشكال التواصل مع الله تعالى هي شبكة المصادرات الواسعة من استغلال وقمع واستبداد وجهل وفقر ومرض. وهي في محصلتها نقص في حرية الكائن الإنساني، أي نقص في المادة الجوهرية لمعرفة الله. فالحرية وحدها هي طريقنا إلى معرفة الله. وكل نقص تتعرض له حريتنا يؤول إلى نقص في معرفتنا. ولو كان الأمر عكس ذلك لما قضت إرادة الله تعالى بخلق الكائن الإنساني حراً مختاراً. ولو كانت الأخطاء والمساوئ الناجمة عن الحرية تجيز مصادرة هذه الحرية أو تقييدها لكان الله تعالى اولى أن يحدها أو يصادرها بإرادته التكوينية.

أكثر ما يعرِّض الإنسان للعقوبة الإلهية هو التنكُّر لشرط الحرية فيه. فعقدة التحريم والخوف من الحرية كما تراكمت في ذلك الفرد والجماعة عبر تاريخنا العربي والإسلامي ليس الدين بريئاً منها فحسب وإنما ضحيتها.

لذا فإن مصادرة الإبداع بحجة الخوف على الدين كانت تنتهي إلى مصادرة الدين نفسه ولتحويله طقوساً فارغة تارة ومادة قهر واستلاب في أيدي السلاطين والمتنفذين طوراً. لقد كاد اقتران قمع الإبداع بإسم حماية الدين عبر فترات بائسة طويلة من تاريخنا الإسلامي أن يرسخ في وعينا أن حرية الفكر تفضي في الضرورة إلى حتمية الكفر. فالخوف من الإبداع، أي من حرية الفكر على منظومة القيم التي تمثل هوية الأمة العربية والإسلامية والخوف من هذه الحرية على الإسلام لا يتضمن في نظري إلاّ التشكيك في أهلية هذه المنظومة وفي أهلية الإسلام نفسه. فماذا يبقى من الإسلام إذا كانت الحرية تشكل عامل تهديد له؟ نعم يوجد تهديد للإسلام أمام حرية التفكير والإبداع، ولكن أي إسلام هذا الذي تهدده حرية الإبداع والتفكير؟

إنه بالتأكيد ليس إسلام الينابيع الحية المتمثلة في القرآن الكريم وسنّة النبي والأئمة، وإنما هو في أحسن الحالات الإسلام التاريخي سواء ما كان منه إسلاماً، أي فهماً للإسلام، تاريخياً ومشروعاً في عصره أو ما كان منه دخيلاً على الإسلام ومؤولاً له وفق مصالح الاستبداد السياسي.

من هنا فإن عودة الإسلام بوصفه قوة تحرير الإنسان فرداً واجتماعاً، وتالياً عودته بوصفه مشروعاً حضارياً ولو في مستوى الأمة العربية والإسلامية، لا يمكن أن تتحقق من دون إعادة الاعتبار إلى قيم الإبداع والحرية المغيبة منذ قرون عديدة لمصلحة نظام منها ما كان يزوّر لنفسه شرعية دينية ابتداءً في بداية العصر الأموي حتى سقوط الدولة العثمانية في أوائل هذا القرن، أو ما يزوّر لنفسه اليوم شرعية قومية أو قطرية أو وطنية وينصّب نفسه حارساً على هذه الشرعية من أخطر أعدائها وهم الحرية والإبداع.

إن الاستبداد السياسي يخشى الحرية ويضع شروطاً وتحفظات عن الإبداع والمبدعين، أما الإسلام فإنه لا يخشى شروط الحرية ولا تزعجه أخطاؤها ما دامت في النهاية هي فرصة استعادة نهضته وتحققه في مجتمع الإنسان. إن الله تعالى هو بديع السموات والأرض كما وصف ذاته المقدسة، فهل تكون خلافة الإنسان لله على هذه الأرض خارج هذه المعادلة: هل تتحقق غايات الخلافة من دون فعل الإبداع.

يمكن العودة الى القسم الاول من المقالة للاستزادة على الرابط التالي:
http://janoubia.com/152575

السابق
«السيدة الأولى» مُنتج جديد يتعرّض لسهام زمنه
التالي
سليمان: نحن نسجل اعاقة سياسية بادارة شؤوننا اللبنانية