حوار مع “مقاوم” بسوريا: الراتب بدل المبادىء (2)

في الجزء الثاني من ملفّ "مقاوم الأمس وجندي اليوم" رواية لسيرة شاب 18 عاما أخذته البطالة الى "حزب الله" وليس "المبادىء"، ولا حتى "المذهبية". وسيصير، خلال أشهر، زوجا وربما والدا، أخذه اليأس إلى معركة في سوريا، لا يعرف منها إلا الراتب العالي (نسبة الى البطالة) والرغبة في أن يصيّره السلاح رجلا، وأن يصيّره الراتب جديرا باحترام المجتمع، وأن يصيّره التحزّب جديرا باحترام الأهل وبتقدير إضافيّ منهم.

أنهى عامه الـ18 قبل أيام فقط. من عائلة عادية. ليس فقيرا. لكنّه لم يكمل تعليمه بسبب شعوره العارم باليأس الذي يضرب أبناء جيله. فالخوف من البطالة بعد  دراسته الجامعية جعله يتسرّب من المدرسة الى “معهد فنّي”. ظنّ بذلك انه يتحصّل على عمل ببضع مئات من الدولارات شهريا. لم يكن يطيق الانتظار 10 سنوات أخرى كي يصير محاميا أو طبيبا. كان مستعجلا. والده، الموظف العادي، لا يملك أن يعطيه مصروفا كافيا. والدته المحجبة أجبرت بناتها الأربع على ارتداء الحجاب. وصار والده يلبس خواتم من تلك التي يلبسها المنتمون الى “حزب الله”. وما عاد يفوّت صلاة في مسجد القرية الجنوبية (جنوب لبنان) حين يزورها في العطل والأعياد.

وهكذا كان. بعد 3 سنوات في المعهد بدأ يبحث عن عمل، في عامه الـ16. طرق أبوابا كثيرة. لم يفتح أحد.

سنتان قضاهما يبحث عن عمل. ففي السنة الأولى التحق شقيقه الأكبر، الذي أنهى عامه الـ21، في دورات تدريبية عدّة مع “حزب الله”. ثم تراجع لأنّه لم يحصل على التفرغ الكامل.

في السنة الأولى من عطالته عن العمل شارك في دورة تدريبية سطحية كان “حزب الله” يعطها لمن هم خارج بنيته التنظيمية. دورة لثلاثة أيام فقط، أثبت خلالها قوّة بدنية لافتة. كانت الثورة السورية في عامها الثاني. لم يكن “حزب الله” قد أعلن مشاركته رسميا في قمع تلك الثورة.

في عامه الـ18 شارك في دورات عدّة. لم يكن أثر التديّن قد بان بشكل واضح عليه. ثقافته الدينية ضحلة الى درجة خطيرة. لم يفتح القرآن الكريم في حياته. لا يميز الأحاديث النبوية من الأمثال الشعبية، ولا أقوال الإمام علي من أقوال الأجداد والأسلاف.

لكنّه بدأ يغيب لأسابيع عن المنزل. كان والده مطمئنا إلى أنّه في أيدي “حزب الله” الأمينة. بعدها صار تدخّل “حزب الله” في سوريا رسميا. وكلّ من يعرفه، هو وغيره من الشبّان الذين يتغيّبون عن أهلهم ورفاقهم لأسابيع طويلة، صار معروفا، من دون إعلان، أنّهم “في سوريا”.

في جلسة طويلة معه، سألته: “لماذا دخلت الى حزب الله؟”. أجابني: “وماذا تريدني أن أفعل؟ أن أبقى عاطلا من العمل؟”. لم تكن الإجابة مفاجئة، لكنّ صراحتها كانت لافتة. ثم أضاف: “لاقيلي شغل وببطّل”. وراح يضحك ضحكة من هم في مثل سنّه. ضحكة الرجل – الطفل. كما لو أنّه كان يستنجد بي.

سألته أكثر: “ما دمت مضطرا للانتساب للحزب، فلماذا لا تعمل في أقسامه المدنية؟ لماذا العمل العسكري؟”. فأجاب بلا تردّد: “في المدني نعمل 6 أيام ونعطّل الأحد. والراتب ثابت. أما في العمل العسكري فقد يستدعوننا أيام الآحاد والعطل، وهذا نقبض عليه بدل ساعات إضافية. وأحيانا حين نغيب لأسبوع أو أسبوعين نقبض الرواتب مضاعفة أو ثلاثة أضعاف”.

بدت الصراحة غريبة. فهذا الكلام يمكن أن تسمعه من شاب قرّر دخول الجيش اللبناني أو قوى الامن الداخلي. هناك يكون “تعويض نهاية الخدمة” مضمونا. ويكون  “الراتب التقاعدي” مضمونا والتأمينات المدرسية والصحّية.. لكن في حالة “حزب الله”، الحزب “المقاوم”، الذي يريد “تحرير مزارع شبعا”، والذي يريد “حماية لبنان من إسرائيل”، فهذا ما لا يمكن تصوّره من ردود شاب يرابط على الخطوط الأمامية لجبهة “حزب الله” السورية.

وأضاف: “الذين يعملون في العسكر يساعدهم الحزب في بناء المنزل في الضيعة، ويهديهم اثاث المنزل عند الزواج، ويسهّل لهم زواجهم، أما المدنيون فلا يحصلون على هذه الامتيازات”. وأردف قائلا: “خلال 6 أشهر من المشاركة في سوريا سأكون قادرا على بناء بيت فوق بيت أهلي في القرية، وسأتزوج وأفرش البيت”.

هكذا بات ابن الـ18 عاما رجلا مع منزل مؤثث وتأمينات صحية ومالية، وبات رجلا مقاتلا، أخذته البطالة الى “حزب الله” وليس “المبادىء”، ولا حتى “المذهبية”. وسيصير، خلال أشهر، زوجا وربما والدا، أخذه اليأس إلى معركة لا يعرف منها إلا الراتب المرتفع (نسبة الى البطالة) والرغبة في أن يصيّره السلاح رجلا، وأن يصيّره الراتب جديرا باحترام المجتمع، وأن يصيّره التحزّب جديرا باحترام الأهل وبتقدير إضافيّ منهم.

حين سألته هذه الأسئلة تذكّرت صديقا، جنديا من قوات النخبة في الجيش اللبناني، شارك في حرب تموز 2006 وشارك في معارك نهر البارد 2007 وفي مداهمات شمالا وبقاعا في السنوات الأخيرة. وكان كلما ناقشته يعطيني قراءة سياسية شاملة ضدّ “الإرهاب” أو “حفاظا على السلم الأهلي” وما شابه. ثم يتحدّث عن عائدات الدورات التي يشارك فيها بين أوروبا وأميركا ودول أخرى.

في المحصّلة، بدا الحديث مخيّبا. أكثر ما آلمني أنّه قال لي: “إذا استشهدت في سوريا يحصل أهلي، أو زوجتي وابني لاحقا، على مبلغ كبير وعلى راتب وتقديمات مدى الحياة”… وأكثر ما آلمني أنّ البطالة جعلت طفلا في الـ18 من عمره يفكّر في الموت من أجل راتب لوالده أو لزوجته.. هذا إذا “لحق” يتزوّج.

السابق
المقاومة والسلطة: البندقية محلّ العقل (3)
التالي
مصدر أمني: انتحاري الشويفات كان متوجها الى سفارة ايران