أردوغان وإيران: أسئلة ما بعد الزيارة

بقدر ما أحيطت زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى إيران بحفاوة بالغة توّجت بلقاء المرشد الأعلى السيد علي خامنئي، وبقدر مناخات التفاؤل التي رشحت من تصريحات المسؤولين في البلدين، فقد تقاطعت الزيارة أيضاً مع تساؤلات وأسئلة، لا سيما في ما خص مدى التجاوب التركي مع السعي الإيراني لجلب تركيا إلى مساحة معقولة من إعادة التموضع الإقليمية.
على الصعيد الثنائي، يواصل البلدان تطوير علاقاتهما بما يخدم مصلحتيهما الاقتصادية أولا. وهذا أمر في غاية الإيجابية. فإيران حريصة في ظل قيادة الرئيس الشيخ حسن روحاني على مواصلة صورتها الانفتاحية التي بإمكانها أن تنعكس مردودات فورية ولاحقة على الوضع المعيشي للمجتمع الذي عانى كثيرا من الحصار والعقوبات. وليس أفضل من تركيا الجارة والمجاورة والباب الى الغرب لترجمة هذه التطلعات.
وتركيا بدورها بأمسّ الحاجة الى تدعيم اقتصادها في فترة تتعرض فيها الليرة التركية لضغوطات غير مسبوقة وتتراجع فيها مؤشرات النمو الاقتصادي، من ازدياد البطالة والاستثمارات الخارجية، خصوصا بعد فضيحة الفساد التي لم تنته فصولاً.
وتجد تركيا في ايران شريكاً مؤاتياً يساعد أردوغان على تجاوز الصعوبات في الاقتصاد الذي هو مصدر قوته الأساسية في الداخل. ولقد ترجم الطرفان هذه المصلحة المتبادلة بتوقيع عدة اتفاقيات، ولا سيما في مجال النفط والغاز الطبيعي.
غير أن ما يلفت النظر أن التصريحات أو التسريبات لم تعكس موقفاً محدداً من الأزمة السورية، سواء في هذا الاتجاه أو ذاك. ومع ان هذا التكتم قد يعكس تفاهمات عامة لا يريد الطرفان تعريضها للخطر إذا تم الاعلان عنها، فإنها يمكن أن تعكس أيضا خلافا على الأهداف كما على الأساليب.
ربما حاول الجانبان أن يعتبرا الاتفاق على مكافحة “الإرهاب” مدخلا للولوج الى الأزمة السورية. غير ان المشكلة هنا تكمن في تعريف “الإرهاب” ومن هي المنظمات أو الجهات التي يتفق الطرفان على أنها “إرهابية”.
هنا من المفارقات اللافتة أن يتزامن الحديث عن مكافحة “الإرهاب” في طهران مع صدور بيان عسكري تركي يقول ان الطائرات التركية الحربية قصفت قافلة لتنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” (داعش). فهل هي رسالة تركية جدية في أنها مستعدة لمحاربة هذا التنظيم الإرهابي أم انها مجرد مناورة لتمرير المكاسب الاقتصادية من الزيارة؟
نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد وصف، في حوار مع قناة “الميادين”، الغارة التركية بالاستعراض، أي ذر الرماد في العيون. السوريون أكثر دراية بما وراء كواليس النيات التركية. ذلك ان “داعش”، وفقاً لصالح مسلم رئيس “حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي” في سوريا، في حديث مع صحيفة “حرييت” التركية قبل أيام قليلة، هي التي تقاتل الأكراد في سوريا مدعومة من تركيا، وشاحنات الأسلحة التركية المرسلة إلى سوريا لا تصل إلى “الجيش السوري الحر” ولا حتى الى “جبهة النصرة” بل الى “داعش”.
فكيف يمكن لتركيا أن تحارب “داعش” ورقتها الوحيدة الآن لكبح تعاظم نفوذ الأكراد في سوريا؟ علماً أن الغارة التركية، إن كانت قد حدثت فعلاً، قد لا تكون على مواقع لـ”داعش” بل على مجموعات مسلحة عملت على تهجير التركمان في سوريا في اتجاه الأراضي التركية، وارتبطت الغارة بنزعة إتنية لا تزال من عناوين السياسة التركية في سوريا وغير سوريا.
عدم ورود أي إشارة الى سوريا على لسان أردوغان وفريقه السياسي الذي واكبه، لا يعني بالضرورة تغييراً في سياسة تركيا، لأن كل المؤشرات التي سبقت الزيارة كانت تعكس أن تركيا لا يمكن أن تقبل أي حل يضمن بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في موقعه، وأردوغان دعا عشية “جنيف 2” إلى إطاحة الأسد “اليوم قبل الغد”، ووزير الخارجية التركي أحمد داود اوغلو بزّ أقرانه من وزراء الخارجية في بازار اللهجة العدائية لسوريا في افتتاح مؤتمر جنيف، والإعلام الموالي لـ”حزب العدالة والتنمية” في تركيا لا يهدأ في الأوصاف التي يطلقها على النظام السوري. وربما تتشجع تركيا أكثر اليوم في أن يكون تسليح واشنطن للمعارضة السورية إيذاناً بإمكانية تغيير موازين القوى على الأرض.
وهنا لا يمكن فهم كلام خامنئي عن أن العلاقات بين تركيا وايران اليوم تمر في أفضل حال لها منذ عصور، سوى محاولة لثني تركيا عن الاستمرار في سياستها السورية تحديداً، أي حيث تواجه إيران تحديات جدية هي وحلفاؤها والمحور الذي تنتمي إليه، بل تقوده.
ذلك أن السيد خامنئي يدرك جيداً أن العلاقات بين البلدين في ما يتعلق بالملفات الاقليمية وحتى الثنائية، بلغت ذروة توترها منذ عصور بسبب تعاطي تركيا مع المسألة السورية على قاعدة كسر الجانح السوري فالعراقي واللبناني ( أي “حزب الله”) وصولاً إلى الهدف الأصلي، وهو كسر النفوذ الإيراني في المنطقة والتفرد في الهيمنة عليها.
وليس تعاطي تركيا مع ايران من منطلق أنها (أي تركيا) بلد أطلسي ونصب الدرع الصاروخية التي كانت تستهدف الصواريخ الإيرانية ومن ثم صواريخ “الباتريوت” سوى مثال على ذلك، من دون إغفال أن الخطاب المذهبي المسيء لإيران والكتلة الشيعية في المنطقة، لم يغادر تصريحات المسؤولين الأتراك من أردوغان إلى داود أوغلو وصولاً إلى وزير العدل الحالي بكر بوزداغ، الذي لم يتردد بوصف “حزب الله”، بعد معركة تحرير القصير، بأنه “حزب الشيطان”.
لكن رياح المتغيرات في المنطقة لم تسعف الأتراك لتحقيق هدفهم، بل تكسرت نصالهم كما في سوريا كذلك في مصر والخليج. وباستثناء الدوحة، لم يعد داود أوغلو يجد عاصمة صديقة أو حليفة يمكنه زيارتها.
بعد كل هذا الهجوم على إيران، تتحول الأخيرة إلى “البيت الثاني” لأردوغان، على حد وصفه هو بالذات، بل يدخل في دائرة تأسيس “مجلس إستراتيجي أعلى” سيجمع الحكومتين على غرار جمع حكومتي دمشق وبغداد مع حكومة تركيا عشية “الربيع العربي”، في تكرار مكشوف لتجربة لم تعد تنفع بعدما نكث الأتراك بالمواثيق وهدموا جدار الثقة الذي كان قد شيد بعد عقود من الشكوك والحساسيات بين العرب والأتراك.
إن أي إعادة تأسيس لعلاقات جديدة مع تركيا لم تعد بحاجة الى عبارات عاطفية وتشجيعية أو استدعاء شعارات “الأخوة الإسلامية”، بل الى واقعية وعقلانية وندّية.

السابق
علوش: المحامون سيردون على موضوع نقص الأدلة في المحكمة الدولية
التالي
حزب الله يقرأ باهتمام شديد التصعيد الكلامي الإسرائيلي