‘نكتة’ اسمها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان

– I –
نسارع إلى القول:
لايجب أن يقرأ هذا المقال من عنوانه. “النكتة” هنا ليست موقفاً ضد المحكمة الدولية، تماشياً مع إدانة حزب الله والنظام السوري لها بوصفها “أداة إسرائيلية وامبريالية” كما جاء في خطابهما.

ولا هي بالطبع قفزاً فوق أرواح الضحايا الذي سقطوا بسيف الإرهاب ونصله.
ولا هي،أخيرا، إدارة الظهر لأمل، ولو كان بريقاً، بأن العدالة ستكون يوماً على جدول أعمال نظام عالمي متوحش بطبيعته وتراكيبه (راقبوا مواقف مجلس الأمن و”الأسرة الدولية” إزاء المذبحة السورية المفتوحة).
كل ماهنالك أننا نضع هذه المحكمة في السياقات الموضوعية لتطورات الشرق الأوسط. وهي سياقات قد تبدو فيها معالم المرحلة المقبلة كالآتي:
– الربيع العربي يسير بوتائر متسارعة نحو الأفول، ليحل مكانه (مجددا) شتاء سلطوي وديكتاتوري، يعيد انتاج الدولة الأمنية أو البوليسية لتكون أقوى عشرات المرات من تلك التي سادت طيلة نصف القرن المنصرم. لماذا؟ لأن سلطة المخابرات ستحظى هذه المرة بغطاء شرعي شعبي، كانت تفتقده منذ رحيل شخصية جمال عبد الناصر الكاريزمية، كما دلّت على ذلك بوضوح انتفاضة 30 يونيو المصرية، ثم الصعود الفلكي لعبادة الفرد المتجسدة في الشعبية الفائقة للجنرال عبد الفتاح السيسي.
– وفي الوقت نفسه الذي تعيد الدولة البوليسية انتاج نفسها في كل الأنظمة العربية (ماعدا تونس حتى الآن)، تقوم هذه الأنظمة نفسها بتشجيع وتسهيل(وحتى أحياناً في خلق) بروز المنظمات الإسلامية المتطرفة، بهدف تبرير وجودها مجدداً أمام كلٍ من الغرب والرأي العام فيها.
النظام السوري بالتحديد، وربما قبله وأن بشكل أقل “حنكة” النظام الجزائري إبان الحرب الأهلية في تسعينيات القرن العشرين، قدما نماذج فاقعة للغاية عن كيفية استخدام الأنظمة للإسلام الراديكالي كأداة سياسية في معركة الوجود. فمنظمة داعش، كانت في بداياتها على الأقل من مخلوقات أجهزة المخابرات السورية. وقل الأمر نفسه عن منظمة النصرة التي استولدها النظام السوري ليجعلها تعلن مسؤوليتها عن اغتيال رفيق الحريري العام 2005. وقد نام اسم هذه الحركة سبع سنوات كاملة قبل أن يستيقظ (أو بالأحرى يوقظ) في السنة الثانية من الثورة السورية، حين شعر النظام أنه في حاجة إلى دمغ الثورة الشعبية بالإرهاب الديني.
ماجرى في سورية قد يتكرر بحذافيره الآن في مصر. فالنظام الجديد هناك أعلن جماعة الإخوان منظمة إرهابية، مشرعاً الباب على مصراعيه ليس فقط أمام دفع شباب الإخوان إلى التيار القطبي (من سيد قطب) العنيف وحسب، بل حتى أيضاً إلى حفز بروز منظمات إرهابية جديدة تديرها أجهزة استخباراته. وهذا سيجعل مصر تتراقص على حافة الانفجار الشامل لسنوات عدة مقبلة.
قد يقال هنا أن الأنظمة العربية نجحت في السابق في قمع الإسلام الراديكالي وفي الحفاظ على استقرار مديد، كما حدث في سورية (1983) ومصر والجزائر (حقبة التسعينيات)، وبالتالي فهي قد تعيد الكرة الآن بنجاح.
حسنا، ربما. لكن يجب أن نتذكر هنا أن نجاح الرئيس الراحل حافظ الأسد في ذبح الجناح المتطرف للإخوان المسلمين في حماه وتحقيق الاستقرار، أسفر في خاتمة المطاف عما نراه الآن من انفلات العنف من عقاله في سورية بشكل فاق كل التوقعات وكل التحليلات. الآن يبدو واضحاً الآن أن حافظاً لم يفعل شيئاً في الواقع سوى تحويل سورية إلى طنجرة ضغط (بريستو)، ما لبث انفجارها أن أدى إلى تشظي الوطن السوري برمته.
وهذا مصير قد يتكرر قريباً في مصر والجزائر وحتى في تونس، حيث سيؤدي إغلاق الأبواب والنوافذ في وجه “التسيُّس” التدريجي للإسلام السياسي، إلى أدلجة عنفية كاملة في صفوفه.
– وإلى كل هذه العوامل أعلاه، يجب أن نضيف التغيرات الجذرية التي طرأت على المواقف الدولية إزاء الشرق الأوسط. فقد تخلت إدارة أوباما (كما حدث رسمياً في خطاب الرئيس أوباما أمام الأمم المتحدة في 24 أيلول/سبتمبر 2013) عن اعتبار حقوق الانسان في الشرق الأوسط جزءاً من الأمن القومي الأميركي، وعادت بالتدريج إلى استراتيجية الاستقرار ودعم الدولة الأمنية. هذا في حين كانت روسيا تدخل بقوة إلى المنطقة وهي تحمل ترفع لواء هذه الاستراتيجية الأميركية نفسها. (وهذا على الأرجح ماسهّل تقاطع المواقف الروسية والأميركية مؤخرا).
– II –
ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
أمران في آن:
الأول، أن المنطقة العربية برمتها تقريباً مقبلة على انفجارات أوسع، سيُستخدم فيها الإسلام العنفي أو المتطرف كأداة تكتيكية، أساساً من قِبَل كل أنظمة المنطقة (من إيران وسورية والعراق إلى تركيا ومصر والسعودية)، ولكن أيضاً من قِبَل إسرائيل والقوى الغربية، كلٌ لخدمة مصالح محددة في أوقات محددة. (سنتطرق إلى هذا الموضوع الدقيق في مقالات لاحقة).
والثاني، أن سقوط الربيع العربي وصعود الدول البوليسية ومعها وصفات العنف والإرهاب والتطرف، سيحيلان أي حديث عن حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية إلى مجرد حلم ليلة صيف.
وهذا بالتحديد ماجعلنا نطل على الحدث التاريخي الكبير المتمثل بالمحكمة الدولية حول لبنان على أنه سيكون بمثابة “نكتة” دولية. ويكفي هنا أن نورد دليلاً واحدا من بحر هائل من الأدلة: في حين أن المحكمة الدولية تسعى إلى سوق متهمين باغتيال الرئيس الحريري وعشرات آخرين من السياسيين والمواطنين إلى العدالة، تغض “الأسرة الدولية” الطرف عن قتل 135 ألف مواطن سوري، وجرح أكثر من مليون، وتهجير 9 ملايين آخرين، وتدمير نصف سورية، واستخدام الأسلحة الكيميائية. كما يبرز الحديث مجددا عن اتصالات بين القادة الغربيين والرئيس بشار الأسد المتهم بكل هذه الموبقات.
وهذه المفارقة ستتكرر فصولاً على الأرجح في كل أنحاء المنطقة التي دخلت لتوها الآن في نفق عصور وسطى مظلمة جديدة، بقيادة عربة يقودها جوادان: الدولة البوليسية والإرهاب الديني.
وكلا الجوادين، بالمناسبة، يركضان معاً .. بشكل “منسَّق” و”تعاوني”.

السابق
الحمض النووي لغندور لم يتطابق مع الاشلاء في مكان الانفجار
التالي
الرجل اللبناني مهووس بالجمال والتجميل أيضا