الدستور ..والغيب

في القاعة المهيبة كان أعضاء “لجنة الخمسين” ما يزالوا منكبين على “حلْحلة” البنود المستعصية عليهم في صياغة الدستور المصري الجديد، البديل عن الدستور الإخواني الظلامي؛ موقع الجيش وصلاحياته، المحاكم العسكرية، تطبيق الشريعة، حرية التظاهر والإعتصام الخ… صحيح، كما قال بعضهم، ان جميع الدساتير تنصّ على كلام جميل، وان العبرة في التطبيق؛  ولكن تبقى المهمة جليلة، لأنها ترسم الملامح العامة للدولة المقبلة. فضلاً عن انها جزء من “خريطة طريق” بدأت بالإطاحة بالرئيس الإخواني، ويجب أن تمر بإستفتاء شعبي على هذا الدستور؛ وقد حدد موعده لاحقاً عدلي منصور، “رئيس الجمهورية” المؤقت، في أواسط الشهر المقبل، بعدما أعلن عمرو موسى، رئيس “لجنة الخمسين” عن إنتهاء مهمة صياغته.

ولكن خارج القاعة المهيبة، وأثناء النقاش، الحامي أحياناً، الذي كان يدور داخلها، كان المناخ أقرب الى عالم الغيب منه الى عالم الواقع الواقعي. الإعلام الرسمي والمستقل كان يخوض معركة موازية لـ”لجنة الخمسين”، هدفها جرّ “الشعب” الى حب الدستور الذي كان ما زال في طور الأخذ والردّ، الى القيام بواجب الإستفتاء عليه بـ”نعم”، بصفته واجباً وطنياً، لا ينصرف عنه غير الخونة من “إخوان” ومن لفّ لفهم، الذين يريدون تدمير الوطن والتجربة الديموقراطية الخ. حملة مسبقة، حملة منظمة متيقنة، تعلم من دون فتح المندل ان هذا الدستور الذي يختلف حوله أعضاء مكلفون بصياغته، هذا الدستور هو العلم والحلم، هو الغاية والمبتدأ، هو الخير العام الذي سوف تجلبه بنوده… والإستقرار والمستقبل المشرق والريادة…

مقارنة بسيطة بين وضعية الإعلام في السنة المشؤومة لحكم “الإخوان”، وبين الأشهر الستة التي مرّت على إسقاطهم…. ليست لصالح الأخيرة. تحت الحكم الكارثي لمرسي، كان الإعلام الرسمي مصادراً، كالعادة؛ ولكن الإعلام المستقل كان فارداً جناحَيه على طولهما وعرضهما. يتبادر الى الذهن الآن: أين اختفى باسم يوسف؟ هل كان لعرضه أن يمرّ من دون أن يسخر من تلك الحملة المنظمة لزملائه من أجل دستور لم يصغْ بعد؟ أو، هل كانت سخريته ستعفي الشخصية الناصرية الأولى في البلاد، المرشح الواجهة بدل السيسي، وهو يقول انه سوف “يستخير” ليقرر ترشحه… وهو يسأل السماء إن كان يترشح أم لا لرئاسة الجمهورية، بدل السيسي؟ بعدما صوَّر نفسه، راكعاً يصلي في وضعية كل “الرؤساء المؤمنين” الذين حكموا قبله… يدغْدغ المشاعر الدينية للبسطاء من أجل شرعية يستمدها من إستحضار روح جمال عبد الناصر؛ منه يستمد ملامحه ووقفاته ونبرته و”رؤيته”… تواؤماً مع مناخ غيبي أعمّ، كان لعبد الفتاح السيسي الدور الأعظم في إحيائه عبر تقصمّه لشخصية عبد الناصر، وتبنّيه لرموزه و”كاريزماه”…

 ومناخ عالم الغيب هذا لم يكتفِ بالنيل من الناصريين، الجدد منهم والقدماء؛ وهؤلاء على كل حال لقمة سائغة للمشاعر الغيبية، نظراً لعاطفيتهم المفرطة ورومنسيتهم الساذجة. قلنا لم يكتفِ عالم الغيب بالنيل من الناصريين، إنما غزا أيضاً العقول الأكثر “علمية” في الحكومة المؤقتة. رئيس وزرائها الليبرالي، خريج المؤسسات الدولية التنموية، لم يكن أقل حظاً بالغيب. فبعد الإعلان عن موعد الإستفتاء على الدستور “التنويري” الجديد، قال رئيس الوزراء بأن “التصويت بـ”لا” على الدستور لم يطرح في خريطة الطريق”، وذلك جواباً على تساؤل عما ستفعله السلطات إذا جاء التصويت بـ”لا”. خاتماً بأن هذا أمر “لن يحدث”… والسيسي “سيفوز باكتساح” لو ترشح للرئاسة.

هذا غيض من فيض المعركة الإلهية التي يخوضها المعادون ل”الإخوان المسلمين” من أجل مصر ديموقراطية حرة. ذاك هو المناخ. تلك هي قسَمات عوالم الغيب التي تسبح فيها مصر الآن. في دولة عسكرية فلولية ذات شعبية كاسحة، يقف على رأسها ورجل “قوي” يستعين بسلاحه وبالسماء في آن.

السابق
«الجهاد» ضد «حزب الله» ردّ على «جهاده» في سوريا!
التالي
ذكرى تأسيس حماس يجمع حزب الله والمستقبل والجماعة الاسلامية