الجولاني الذي لا يمزح

هو سوري في مقتبل العمر، هذا ما أوحي به صوته ولهجته وجملته المركبة بطريقة شامية لا يمكن لاحد ان يخطئها،وهذا ما تؤكده بشرة يده اليسرى التي ظهرت على الشاشة للدلالة على ان الحديث ليس مزيفا، والمتحدث الذي حجب وجهه لاسباب أمنية، لم يكن رجلا آلياً.

كادر سياسي رفيع في التنظيم، استحق كما يبدو منصبه الحالي في التنظيم عن جدارة،ومشروع قائد جدي او مسؤول بارز، او حتى زعيم يمكن ان يؤدي دورا مؤثرا في مستقبل سوريا.. اذا لم يسقط قتيلا على جبهات القتال، او في عملية انتحارية، او ربما في اشتباك داخلي مع منافسين على قيادة المرحلة الراهنة او على طريقة ادارة الصراع مع النظام.

قدمت محطة “الجزيرة” في المقابلة التلفزيونية الاولى مع زعيم جبهة النصرة ابو محمد الجولاني، نموذجا عن احد اهم صناع الحاضر السوري، الذي اعطى صورة جديدة عن تلك الجبهة المثيرة للريبة، وعن مرجعه، تنظيم القاعدة نفسه الذي اكسبته التجربة السورية القاسية، بعد التجارب العراقية او اليمنية او حتى الباكستانية المريرة، قدرة على صياغة خطاب سياسي محلي محكم يمكن ان يستقطب المزيد من الجمهور السوري المهدد من جهة بغارات النظام وصواريخه المدمرة ومجازره التي لا تنتهي، وبضياع المعارضة التقليدية وتشرذمها وسوء احوالها من جهة اخرى.

الانتقادات بل والادانات التي صدرت بحق “الجزيرة”، وبعضها من اعلاميين يفترض ان يقدروا السبق الصحافي الذي ساهم في الماضي في تعزيز قوة المحطة وفي تعميم اسطورة القاعدة، ذهبت بعيدا، وربما عن حق، في وضع الحوار الذي اجراه الزميل تيسير علوني المقرب من قيادة التنظيم، مع الجولاني في سياق حسم الخلاف الذي شهده القاعدة بين جناحيه العراقي المتمثل ب”الدولة الاسلامية في العراق والشام”، داعش، والسوري الممثل بجبهة النصرة، والذي اعطي اكثر من حجمه، حسبما جاء في احد الاجوبة.. مع ان حجم الدماء التي سفكها مقاتلو داعش والفضائح التي ارتكبوها اكبر من ان تحتملها اي معارضة سورية.

المؤكد ان الحوار يندرج في ذلك الانقلاب الاسلامي الذي بدأ منذ اسابيع داخل سوريا، ولم يبلغ خاتمته حتى الان، والذي ادى الى تنحية الائتلاف الوطني المعارض والجيش السوري الحر، والى تصعيد الخلاف السعودي القطري على سبل التعاطي مع الازمة السورية.. كما اوحى كلام الجولاني الذي تحدث بهدوء غريب عن مؤتمر جنيف 2، من دون ان يلجأ مثلا الى التهديد او التخوين، او حتى التفريق بين معارض وآخر، بل كاد يدعو بالتوفيق للمعارضين الذاهبين اليه، ويسأل عما اذا كانت الدعوة ستوجه الى النصرة للمشاركة فيه.

لم يكن الجولاني في الحوار مجرد محارب او مرشد لمحاربين لا يهابون الموت. كلامه السياسي خلا من تلك الهلوسات التي طالما غلبت على خطاب زعماء القاعدة، ولولا قوله الصريح والمباشر انها حرب طائفية تخوضها الغالبية السنية ضد الاقلية العلوية، لكان عرضه الخاص بحكم سوريا وانضباطه بالشريعة واحكامها واجماع اهل الحل والعقد، مطابقا لما ينادي به اي سياسي اسلامي يشتغل علنا في اي مجتمع مسلم، ينكر التكفير والهجرة، ويعتبر الخلافة شأنا آلهياً، ويعد الاقليات بالجزية او الخروج من الديار!

وكذا الامر بالنسبة الى اطلالته اللبنانية التي لم تكن تختلف عما يجري تداوله في البرامج الحوارية التلفزيونية اللبنانية التي يبدو ان الجولاني يتابعها عن كثب، ومنها استعار على الارجح عبارة “الحماقة السياسية” ل”حرب الله”، الذي استدرج النصرة الى لبنان واتاح لها التغلغل من اجل تعبئة اهل السنة، في قتال سيمتد في مرحلة لاحقة الى خطوط الجبهة الهادئة حاليا مع اسرائيل. هذا وعد (سوري جديد) من الجولاني، وما على اللبنانيين الا الاستعداد لطور جديد من “المقاومة”.. يقال انه بدأ قبل ايام على الحدود الجنوبية؟

لا يمكن إلا ان يؤخذ الجولاني على محمل الجد.. فقد سبق لكل الذين استخفوا بالقاعدة وشبكاتها،ان كان عذابهم في جهنم شديدا

السابق
مؤتمر «جنيف – 2» قد لا يُعقَد أبداً
التالي
جعجع: نأسف لادخال موضوع الوجود المسيحي في الشرق في السياسات الضيقة