مانديلا ومصير الايقونة

غريب هو ذاك التطويب العالمي، الرسمي والشعبي، للقديس نلسون مانديلا، وتحويله، ربما بقرار مسبق، الى أيقونة القرن. صار هو الذي، بمفرده، حرر بلاده والبشرية من نظام الفصل العنصري “الابرتهايد”، هو الذي ألهم البشرية بحرياتها، هو الذي…. الكلام هنا نبع من الأحرف. القتلة، الغزاة، الديكتاتوريون، الارهابيون، قادة الميليشيات… كلهم فجأة، صاروا لا يعبدون إلا نلسون مانديلا، دون السياقات التي أفرزت إنتصاره، ولا حتى دون ذكر إسم الرجل الذي تقاسم معه جائزة نوبل للسلام عام 1993، فريديريك لوكليرك، رئيس جمهورية جنوب افريقيا عام 1989، الذي بدأ “قومياً” محافظاً، وانتهى مخلْخلاً نظام “الأبرتهايد”؛ وبضغط شعبي غربي، ثم رسمي، انتهى بتسليم هذا النظام؛ بالتفاوض مع مانديلا صحيح، بصمود مانديلا صحيح أيضاً، بخطوات المصالحة والعفو بعد ذلك… كل ذلك صحيح، ولكن مانديلا لم يكن وحده في هذا الفصل من تاريخه المجيد.
هؤلاء الخبثاء الذين لا يؤمنون بكلمة واحدة تفوّه بها مانديلا، ما حاجتهم الى أيقونة في آخر هذا الزمان؟ يحتاجون إليها لعبادتها، لتغطي عبادتها على إرتكاباتهم القديمة بحق الإنسان، وعلى أنماطها الجديدة؛ على عنصرية غير “كلاسيكية”، غير لفظية، غير مباشرة. عبادة الأيقونة تغطي على جرائم ما قبل العنصرية السافرة، وما بعدها، تمنح صكوكها لشبكات العبودية الإقتصادية والجنسية التي تلفّ الكوكب بخيوطها العابرة للكيانات والبلدان. بعد مرور زمن على وفاة مانديلا، لا تندهش لو سمعت واحداً من المتورطين في هكذا شبكات بترداده للكلمات الخشبية التي تكرّست مع الأيقونة، مثل صلاة المنافقين…
كل هذا ليس للحطّ من قيمة مانديلا التاريخية، ولا للتجديف عكس توجهه السلمي التصالحي الصميمي. ولكن للعبادة حدود…
واقعياً، أول ما يتبادر الى ذهنك، هو إنعدام وجود شخصيات بهذا البعد في ديارنا. الهند لها غاندي، أميركا لها مارتن لوثر كينغ، بورما لها أونغ سان سن كيي، التيبت له الدايلي لاما، روسيا لديها ساخاروف، تشيكوسلوفاكيا لها فكلاف هافيل… وكلهم رجال وإمرأة (أونغ سان سن كيي)، إعتمدوا فلسفة سلمية في مسعاهم السياسي، أخفق بعضهم، نجح الآخر، لكنهم أحياء في ضمائر شعوبهم. أما في دنيانا، فلا نجد أبداً هكذا “بروفايل”. السبب؟ “الثأر”. الثأر هو قاعدة التعامل الرئيسية بيننا وبين الخارج، بيننا وبين أنفسنا أيضاً. نثأر للقتلى، للكرامة، للأرض، لمصالحنا أو ممتلكاتنا أو معتقداتنا. ولنا أن نتصور بحور الدماء الجارية في هذا التاريخ “الثأري”، قوافل الشهداء المتخاصمين، إستهزاء بالمعارك التي لا تكون ضحايا أقل من المليون؛ من يذكر سخريتنا من إستقلالنا اللبناني المعاصر، الذي لم “نستحقه”، كما “إستحقته” الجزائر بشهدائها المليون؟ من يذكر تلك المرحلة التي كنا نريد ان نثأر من الاستعمار؟ وقد انضم اليها مؤخراً نهر الثأر الديني، الجاري الى الأبد؟ لذلك فان أبطالنا هم تحديداً الذين يشكلون خطراً علينا، بحيث نستغيث بهم لحمايتنا منهم… ولا تنتهي الدائرة؛ فالدوائر لا تنتهي، إنما تدور فحسب.
خذْ أبطالنا هؤلاء العظام على سبيل المثال… الراحلين منهم والعائشين. كم نعبدهم، كم نفدي بحياتنا من أجلهم، كم نرفع قبضاتنا عند تصاعد نبرتهم… ما من واحد من بينهم “حررنا”، إلا وهمياً، فكان هذا الوهم هو طوقه حول رقابنا. الوحيد الذي استحق أوصافا شبيهة بمانديلا كان أنور السادات.. الذي قاطعه شعبه والعرب أجمعين لأنه أراد السلام مع عدوه، بعدما إنتصر عليه بالحرب النظامية. كم إستصغرناه، كم سخِرنا منه، كم إحتقرناه، وقارناه بسلفه “المارد العظيم”. وعندما وقع صريع الرصاص الإسلامي، ظننا اننا تخلصنا من الفرعون الطالح… واليوم، إعادة الاعتبار له لا تنبع من حب العسكر للسلام، أو المصالحة، أو العفو… بعدما اهترأت كل هذه المعاني إثر ثلاثة عقود من حكم مبارك.
ولكن السؤال يبقى: الثورات العربية التي كان يمكن لها ان تلعب مع التاريخ لعبة مانديلا نفسه، كيف تحولت الى نقيضه؟ بغفلة من الزمن؟ من الوعي؟ من المصالح؟ من الثقافة؟ من الشبكات التواصلية؟

السابق
لم يُحسم بعد قرار الأفرقاء السياسيين بشأن إنتخاب الرئيس الجديد
التالي
حزب الله يعجز عن الحجة أمام جنوبية