كلما صار احدنا لبنانياً قتلوه

رينيه معوض
من كمال جنبلاط الذي ظنّ الحلم اللبناني ممكنا، الى الإمام موسى الصدر، الذي قتل لأنّه كان لبنانيا في لحظة تخلي الكثيرين عن لبنان، وصولا إلى رينيه معوّض الذي قتل لأنّه قال "لا" للوصاية واعتدّ بلبنانيته، والى رفيق الحريري الذي قتل لأنّه قرّر الانحياز الى الدولة والى الخلاص من الوصاية. كلما صار أحدنا لبنانيا قتلوه.
أحد السياسيين اللبنانيين، وهو القريب من النظام السوري، وبعد سنوات من اغتيال الرئيس رينيه معوض، روى في مجلس خاص الرواية الآتية:
بعد انتخاب رينيه معوض رئيساً للجمهورية، جاءه من المسؤولين السوريين من يبلغه باسماء الوزراء وحقائبهم الذين يريد النظام السوري توزيرهم في الحكومة. قدّم اليه المسؤول السوري لائحة معظم وزراء الحكومة، فاستعرض الرئيس معوض الاسماء، وبأسلوب هادىء رفض. فلا الاسماء بنظره كانت على مستوى ما يطمح اليه لحكومة ما بعد الحرب، ولا مبدأ ان تفرض على البلد حكومة من خارجه راق لشخصيته.
 يكمل السياسي… انه بعد ايام جرى اغتيال الرئيس معوض في يوم الاستقلال.
 كأني بيوم الاستقلال ذاك كانت بداية كربلاء السلم الاهلي، وجلجلة الآلام اللبنانية التي لا نزال نمشي على دروبها حتى هذه اللحظة.
نعم الرئيس رينيه معوض كان حسينيا بكل ما للاعتدال من معنى، ووسطيا بما تعنيه من موقف بين تطرفين. فالوسطية ليست موقفا مائعاً بين الحق والباطل..
 هو وسطي في مقابل تطرفين: تطرف العداء للمحيط العربي والاسلامي وقضاياه، وتطرف الاندماج والتبعية لانظمته المستبدة الجائرة. لذلك قتل
 لم يكن قائد ميليشيا ولا هاوي حروب، كان رجل دولة طامحاً لاستكمال حلم الشهابية ومشروعها في بناء دولة القانون والمؤسسات، والسيادة.
عبّر في تلك الايام القليلة في الرئاسة عن ارادة الشعب بالخلاص من الحروب العبثية ودولة الميليشيات. وسعى لاستعادة الحبيبة،  تلك التي كتب عنها الشاعر والاديب محمد العبد الله في منتصف الثمانينات من القرن الماضي كتابه الشهير: “حبيبتي الدولة”.
 لذا كان اغتيال رينيه معوض اغتيالاً لمشروع الدولة، ومحاولة قتل جديدٍ للوطن.  قتل الرئيس لأنه اراد ان يطبق مشروعا لبنانيا جامعاً اسمه “لبنان وطن نهائي للبنانيين”، بعدما خبر اكثرية اللبنانيين، بدمهم ومآسيهم، انّ دعاة مشاريع الوحدة العربية او الاسلامية او الاندماج مع سوريا لم يقدموا اليهم  ولشعوب المنطقة الا مشاريع استتباع وتقهقر حضاري وتبعية وتمكين للاستبداد. وان التطلع نحو انتماء وتبعية خارج هوية المنطقة وشعوبها او التقسيم.  لم تكن نتيجته الا غربة عن الوطن وهجرة وتهجير.
واليوم خرجت شعوب العرب، وليس آخرها الشعب السوري، للخلاص من هذه الانظمة، ونحن اليوم نشيع الشهيد رينيه معوض فيما يشيع السوريون نظام استبدادهم وقتلهم.
 ومن قتلهم ويقتلهم، قتل رينيه معوض لأنه رفض معادلة ان لبنان زاروباً من زواريب سورية، ورفض ان يبقى  البلد مجموعة زواريب متناحرة ومتقاتلة.
 قتل اذن،  لكي تبقى الزواريب في لبنان، ولكي تبقى الحدود مع سورية غير مرسمة، وباغتياله أُسّس للبنان الغَلَبة، ليست غلبة المسيحي على المسلم او المسلم على المسيحي، بل غلبة اللادولة على الدولة، غلبة الوصاية والاحتلال على السيادة والاستقلال، وغلبة الاستبداد على الديمقراطية،
قتل رينيه معوض لأنه كان الامين على مدرسة شهابية تقدس الدولة، فلم يكن هاجسه مسيحياً بالمعنى الفئوي الضيق، بل كان عصبه لبنانياً…
 لو كان رينيه معوض من دعاة نظرية حلف الاقليات لنجا من القتل. ولكان قادرا على عقد الصفقات على حساب الدولة كما فعل غيره. ولو كان هاجسه مصالح ذاتية وشخصية ونفوذا… لما عجز. كما فعل الكثيرون بعده.. فبعد كل هذه السنوات التي مرت على لبنان نكتشف معنى قتل رينيه معوض.
 قتل رينيه معوض لأنه تبنى فهماً لاتفاق الطائف قائماً على خروج لبنان من حرب اهلية للدخول في وطن سيد ودولة حرة، في مواجهة فهم لبناني آخر كان تبنى عن سوء نيّة أو حسن نيّة المعطيات الدولية والاقليمية التي تدفع بالوطن لأن يكون تحت الوصاية. فدخل اصحاب هذا الفهم  في تمييع لبنان والدولة، ودخلوا في لعبة عبثية ارتكزت على الوصاية واحتلال لبنان.
 فهمُ رينيه معوض للبنان وللطّائف كان فهما تاريخيا اساسه السلم الاهلي والسيادة والاستقلال وبناء الدولة، فكان شهيده. لقد وضع بموقفه اولاً ودمه ثانياً، بذرة ثورة لبنان المؤجلة، عبر ثورة الفرد وشهيدها المتفرد، المعبر بموقفه وشهادته قبل نحو ربع قرن عن الوجدان الحقيقي للبنانيين
هو الشهيد المتفرد لأنه سار في ايمانه وقناعته دون ان ينظر من حوله ان كان وحيداً ام لا. فهو كان مدركا ان في كل خطوة يقوم بها كرئيس للبلاد يؤسس لمسار تاريخي لدولة لبنان ما بعد الحرب.
في اعتقادي ان ثمة فكرة لبنانية عظيمة كان يجري اغتيالها كلما بدا ان فرص تحققها قد حانت.
  فكلما صارت قامة من قامات البلد لبنانية بالمعنى التاريخي قتلوها وكلما بقيت هذه القامة متترسة بشعار حماية المسيحيين او الموارنة او حماية المسلمين اوالشيعة او السنة… كلما كانت الدولة تتضعضع والقامات تتقزم  ويزداد الخوف والتربص لدى المسيحي والسنّي والشيعي وغيرهم
 كلما صار أحدنا لبنانيا قتلوه.
 من كمال جنبلاط الذي ظنّ الحلم اللبناني ممكنا، الى الإمام موسى الصدر، الذي قتل لأنّه كان  لبنانيا في لحظة تخلي الكثيرين عن لبنان، وصولا إلى رينيه معوّض الذي قتل لأنّه قال “لا” للوصاية واعتدّ بلبنانيته، والى رفيق الحريري الذي قتل لأنّه قرّر الانحياز الى الدولة والى الخلاص من الوصاية.
 كلما صار أحدنا لبنانيا قتلوه.
 كلما صار أحدنا لبنانيا…. قـتَــلُـُووووه.
السابق
حبيش: مجلس الأمن سقط في سوريا وعلي عيد ورّط الطائفة العلوية
التالي
السيد جعفر الأمين: ثالث الثالوث الفكاهي العاملي