جبل الشيخ: البغال تعود

عادت البغال مجدداً الى عزّها المفقود، فبات هذا الحيوان القوي البنية والعابر للمسالك الجبلية الوعرة، محط اهتمام فئة واسعة من مواطني القرى الحدودية مع سوريا، والذين وجدوا في اقتناء البغال، فرصة ذهبية لتأمين دخل مقبول لعائلاتهم، يسد جانباً من حاجياتها الملحة، في ظل هذه الظروف الحياتية الصعبة والأوضاع الاقتصادية الخانقة التي يمر بها البلد.

هذا ما يشير إليه أبو مصطفى من بلدة شبعا، الذي ورث تجارة البغال واقتناءها أباً عن جد. يقول: «البغال كادت أن تنقرض من بلدتنا إبان الاحتلال الإسرائيلي، بسبب الأوضاع الأمنية التي سادت في المنطقة على مدى أكثر من 15عاماً، لكنّ الحرب السورية، أدخلت هذا الحيوان في حلبة الصراع الدائر، فغدا مورد رزق مقبول لشريحة واسعة من اللبنانيين وبعض النازحين السوريين».

فلقد فرض البغل نفسه كوسيلة فضلى، وربما وحيدة، للتواصل عند جانبي الحدود الجبلية الوعرة بين لبنان وسوريا. ويعمل في أكثر من اتجاه: نقل التموين ولاسيما الطحين والخبز والمعلبات الغذائية، تهريب الأسلحة والذخائر والمحروقات، نقل النازحين ولاسيما العجزة والأطفال وجرحى الحرب، مدنيين وعسكريين، من سوريا إلى لبنان.

وتلاقي البغال رواجاً واضحاً في الأسواق الشعبية اللبنانية، فقد ارتفعت أسعارها بشكل خيالي، خلال أقل من سنتين، وبنسبة تجاوزت الـ100 في المئة، فزاد الطلب عليها من جانب تجار الماشية في لبنان، وفق عبد الله العلي. وباتت الأسواق الشعبية في مختلف المناطق الجنوبية والبقاعية، تزدهر بتجارة البغال ويقصدها العاملون في التهريب من مختلف المناطق. يقول العلي: «ارتفعت أسعار البغال بشكل جنوني بسبب كثرة الطلب الذي يفوق العرض. وأسعار البغال متفاوتة، فهي تنخفض وترتفع بحسب بنية البغل وعمره وقدرته وسرعته. ويبدأ سعر البغل بـ1000 دولار أميركي، ويصل إلى حدود الـ4000 دولار. ولكن في فصل الشتاء تنخفض الأسعار قليلاً، بسبب تراكم الثلوج التي تقطع الطرق، ولأشهر عدة، بين لبنان وسوريا، فتتعطل عندها حركة البغال».

يقول سالم. ع، وهو من سكّان إحدى القرى الحدودية مع سوريا: «لقد جدّدت منذ عامين قطيعي من البغال، فهي أشبه بأسطول بري يعبر الحدود بين لبنان وسوريا في حركة مكوكية».
يضيف: «هذه الحيوانات القوية، مورد رزقنا الرئيسي هذه الأيام، نحملّها بالتموين والأسلحة والذخائر عبر الطرق الجبلية الوعرة في مرتفعات جبل الشيخ. فالحرب السورية أعادت لهذه البغال عزّها المفقود منذ اكثر من ربع قرن، إذ باتت الوسيلة الفضلى في عملية نقل المواد الغذائية والطبية والمعدات والأسلحة الحربية، التي تحتاجها أطراف النزاع».

أغلى البغال، وفق عمر الحسين، هو البغل الفتي الذي يراوح عمره بين الـ3 والـ4 سنوات، مع الأخذ في الاعتبار بنيته وسرعته وقدرته على حمل الأثقال». يقول: «هناك أيضا البغال المدرّبة على سلوك طرق معينة، بحيث تصبح لها دراية بالطرق، فتجتازها بمفردها من دون الحاجة إلى صاحبها. ولهذه البغال صفة المناورة والهروب من كمائن معادية تنصب لها، بحيث تعمل على تغيير الطريق، وفي أكثر من اتجاه، ومن ثم تسلك الطريق الصحيح لتصل إلى النقطة المحددة من جانب صاحبها، بعد الإفلات من المكمن».

ويقول العامل في هذه المهنة أبو طارق.غ: «نستغل الطقس الصافي وأيام الصحو، لنعمل في التهريب بين لبنان وسوريا. وأجرة نقلة البغل تتفاوت وفق الحمولة. فحمولة التموين من طحين ومعلبات بحدود الـ 50 دولاراً، والمبلغ يتضاعف إذا كانت الحمولة أسلحة وذخائر، لأنّ في ذلك مخاطرة حقيقية على قافلة البغال وعلى أصحابها».

ولقد بات مشهد قوافل البغال، المحملة بالمواد التموينية ولاسيما الطحين والمعلبات، مألوفاً في هضاب جبل الشيخ الفاصلة بين لبنان وسوريا، والتي يصل ارتفاعها إلى أكثر من 2200 متر عن سطح البحر، حيث عدة طرق وعرة تسلكها القوافل بين هذين البلدين. وقوافل التموين الغذائية تخضع عادة للتفتيش، من جانب القوى الأمنية اللبنانية، وفق أحد المهربين ويدعى جميل، ولكن قوافل الأسلحة تمر بشكل سري تماما، «بحيث نقوم بأعمال تمويه عدة لنبعد الشبهة، ونسلك طرقاً بعيدة عن نظر القوى الأمنية والعسكرية اللبنانية، ولكن في بعض الحالات نقع في كمائن، وقد تمكنت هذه القوى من ضبط عمليات تهريب منذ أشهر، ومنها تهريب أقنعة واقية من الغازات السامة ومتمماتها، إضافة إلى كمية كبيرة من القنابل اليدوية والذخائر والمتفجرات والأسلحة الرشاشة الخفيفة والمتوسطة، كانت في طريقها إلى المعارضة السورية، عبر مرتفعات جبل الشيخ.

ممر تاريخي

المعروف تاريخياً أنّ مسالك مرتفعات جبل الشيخ، كانت ومنذ القدم، ممر تهريب أساسيا بين لبنان وسوريا، وأن العاملين في هذا المجال كانوا بالمئات، وفق المهرب أبو وجدي، الذي يقول: «كان في بلدتنا وحدها أكثر من 270 بغلاً، عملها الرئيسي نقل البضائع من لبنان إلى سوريا وبالعكس، وخلال الاحتلال الإسرائيلي، تواصلت عملية التهريب وكان أبطالها في تلك الفترة، ضباطا من الجيش الإسرائيلي وجيش أنطوان لحد».
يضيف: «كان الدخان الأجنبي سيد التهريب، لأنّ الدخان كان يصل بحراً إلى لبنان من الخارج إلى مرفأ الناقورة الذي كان خارجاً عن سيطرة الشرعية اللبنانية، ويقع ضمن سيطرة الجيش الإسرائيلي وجيش أنطوان لحد، بحيث يصل الدخان إلى لبنان، بأسعار منخفضة بسبب عدم خضوعه لضريبة الجمارك، لذا فعملية تهريبه إلى سوريا كانت مربحة، وتدر على قادة جيش لحد والإسرائيليين ملايين الدولارات. وقد خفت عملية التهريب بعد التحرير، لتعود مجدداً مع الحرب السورية، ليصبح التهريب باب رزق جديدا لمئات العائلات اللبنانية والسورية».

يقول المهرّب أبو شاكر: «الشتاء على الأبواب، والثلوج ستتراكم فوق جبل الشيخ حيث طرق التهريب التي ستنقطع ولفترة يمكن أن تصل إلى أربعة أو خمسة أشهر، وعندها سيتوقف عملنا وستتعطل البغال، لتمضي طيلة هذه الفترة داخل اسطبلاتها».

يضيف: «نستغل كل لحظة هذه الأيام، ونعمل ليل نهار في التهريب لنعوض عطلة الشتاء. أقوم وزملائي بعمليتي تهريب يومياً. وأنا أملك 10 بغال، وحمولة البغل الواحد بحدود الـ200 إلى 250 كيلوغراما، وأجرتها في كل عملية تتراوح بين الـ500 والـ1000دولار، وذلك وفق نوعية المواد المهربة. إنّها مهــنة مربحــة حقاً، وإن كانت كلها مغامرة.

السابق
قوقازيّو سوريا لا عودة إلى الديار
التالي
صيدا: ورشة عن المخدرات