ألد أعداء أردوغان.. أردوغان

يجوب السكان المحليون والسائحون من جميع الأعمار شارع الاستقلال المكتظ بالمحلات والمطاعم، ويخالطون الجماهير في تجربتهم المثيرة للتجول بهذا المكان. وفي خلفية المشهد، نرى مجموعات من المتجولين تقوم بالتقاط الصور أمام النصب الجمهوري، والمؤسس مصطفى كمال أتاتورك. ويقوم البائعون المتجولون ببيع الخبر التركي للأطفال الذين يغادرون بعد ذلك إلى حديقة جيزي. وللوهلة الأولى، ترى الحياة تعود إلى طبيعتها في ميدان تقسيم، البؤرة المركزية للاحتجاجات الضخمة التي اندلعت في مايو (أيار) ويونيو (حزيران)، وحوله.
لكن الاحتفال بعيد الجمهورية التركية في 29 أكتوبر (تشرين الأول) صاحبته توترات جديدة في بعض مناطق إسطنبول ومدن تركية أخرى (بما في ذلك العاصمة أنقرة) بالقرب من ميدان تقسيم.
وسط هذه الأجواء، يبدو أن شهر العسل بين الحكومة التركية والصحافة الدولية، التي أشادت بالنموذج التركي كواحد من الأمثلة التي تحتذى في منطقة الشرق الأوسط، قد انتهى. وغدا انتقاد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في الوقت الراهن هو الهواية المفضلة للمعلقين الغربيين والشرق أوسطيين، بناء على حساباته الخاطئة، وكذلك سوء تقدير وزير خارجيته بشأن الحرب في سوريا، وصولا إلى التعامل مع الاقتصاد أو دعمه للرئيس المصري السابق محمد مرسي. وهناك القليل من الأمور التي لم يتطرق إليها هذا النقد الساخط.
وكان كاتب العمود البارز بصحيفة «واشنطن بوست» ديفيد إغناتيوس قد ذكر في مقال له أن رئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان «كشف للاستخبارات الإيرانية عن هوية 10 إيرانيين التقوا داخل تركيا مع ضباط من الموساد». وقد كان هذا الأمر أيضا بمثابة رسالة سلبية موجهة إلى شخصية مهمة بالمؤسسة الحاكمة، وكذلك توجه لسياستها الخارجية.
ويأتي الكثير من هذه الانتقادات على نحو متكلف، حيث تتجاهل المستويات منقطعة النظير من الاضطراب الذي يبتلع الشرق الأوسط وصعوبة صناعة القرارات حيث لا يوجد شيء تخسره. ولا يحتاج الشخص إلا إلى النظر إلى مكانة الدبلوماسية الأميركية في المنطقة لكي يدرك عدم وجود خيارات سهلة متاحة لأي شخص.
ويعد سجل أردوغان كافيا بشكل كبير لوضعه في مكانة الرجل الثاني الأكثر أهمية بعد أتاتورك أو أبو الأتراك، في تاريخ تركيا المعاصر. وقد عزز رئيس الوزراء الحالي قواعد الديمقراطية، واستطاع بنجاح أن يحطم شبح التدخل العسكري في سياسات الدولة، الذي كان يلوح في الأفق لعقود، حيث كان ذلك يجري دوما تحت راية الدفاع عن الدولة العلمانية لأتاتورك.
واستطاع حزب العدالة والتنمية ترويض التضخم المزمن، الذي تجاوز في إحدى المرات نسبة 90 في المائة في أوائل تسعينات القرن الماضي. وكنتيجة حتمية، كان للتعافي البطيء جدا للاقتصاد العالمي تأثير على أداء الاقتصاد التركي.
علاوة على ذلك، كان التقدم الملموس في عملية السلام مع الأكراد، وهو الجرح الوطني الذي يرجع تاريخه إلى وقت تأسيس الدولة التركية، من صنع أردوغان، حتى ولو كان من غير المحتمل تسوية مشكلة الأكراد أثناء فترته الحالية.
وبالإضافة إلى ذلك، حقق أردوغان إصلاحات مهمة بهدف الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي. لكن ممانعة من بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي، حيث كرر الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي رفضه الشهير قائلا «تركيا إحدى دول آسيا الصغرى»، دفعت تركيا إلى استكشاف تحالفات جديدة كي تسمح لها ببقاء خياراتها مفتوحة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن كل هذه النجاحات ربما تكون قد قادت أردوغان والدائرة المقربة منه في مسار وصفه كثيرون بأنه عجرفة سلطة، ومسار ربما يثبت كونه يأتي بنتيجة عكسية لكل من الديمقراطية التركية وحزب العدالة والتنمية.
وقد أبدى كثيرون في تركيا مخاوف متزايدة بشأن الاتجاهات الاستبدادية لأردوغان وعدم احترامه لمفهوم الإجماع في الرأي، وهو مبدأ أساسي لكنه جوهري للنظام الديمقراطي الذي ساعد في توطيده. ورغم تمتع أردوغان وحزبه بشعبية هائلة، فإن قطاعات مهمة من المجتمع التركي، من بينهم العلمانيون المعتدلون والشباب المدنيون، تحدوهم شكوك كبيرة في ما يعتبرونه أجندة للأسلمة وتشكيل المجتمع التركي بحسب العقائد التي لا يشتركون فيها، ومنها على سبيل المثال القيود المفروضة على بيع الكحول أو على حرية الصحافة والمحتوى التلفزيوني.
علاوة على ذلك، فقد أثار اتجاه أردوغان المعتمد في الأغلب على المواجهة مخاوف مشروعة. ويعتبر رد فعله العنيف تجاه مظاهرات حديقة جيزي، على الأقل جزئيا ضد رد فعل شعبي تجاه تلك الطريقة في الحكم، نقطة في صلب الموضوع. ومن المهم الإشارة إلى كلمات الرئيس عبد الله غل في بداية أكتوبر (تشرين الأول)، حينما حذر من استقطاب متزايد في المناخ السياسي لتركيا. «يملك مثل ذلك الاستقطاب بشكل واضح إمكانية الإضرار بالتماسك الاجتماعي لشعبنا. ومن ثم، لا يمكننا أن ننظر لكل قضية وكل خلاف من منظور الأبيض والأسود، الصواب أو الخطأ، المبرر أو غير المبرر، نحن وهم، صديق أم عدو»، هذا ما قاله غل خلال جلسة البرلمان التي سجلت افتتاح العام التشريعي الجديد.
وقد فسّرت تلك الكلمات على نطاق واسع بوصفها رسالة موجهة لأردوغان من حليف منذ فترة طويلة، يفكر في خياراته قبل الانتخابات الرئاسية للعام المقبل (يحاول أردوغان تعديل الدستور، بحيث يمكن أن يصبح رئيسا صاحب صلاحيات كاملة). وعلى الرغم من ذلك، فإن آخرين ينظرون لذلك بوصفه الوجه الآخر لخط الحزب نفسه، إما كاستراتيجية جيدة أو سيئة.
قد تتناقض اتجاهات أردوغان الإسلامية وإشاراته الدائمة إلى الماضي المجيد للعثمانيين بدرجة كبيرة مع تركيز أتاتورك على العلمانية وجهوده لمحو فكرة الخلافة. من ثم، عندما نقرأ عن سعي أتاتورك لتحديث المجتمع التركي وإضفاء الطابع الغربي عليه، يكون من قبيل السخرية أن نلاحظ تشابها نوعا ما مع برنامج أردوغان للهندسة الاجتماعية النشط بشكل متزايد. غير أن أتاتورك مزج الاتجاهات الاستبدادية بجهد لغرس بذور المؤسسات الديمقراطية في سياق، كان لا يزال فيه وجود الأمة التركية الناشئة مهددا بطمع القوى الاستعمارية الأوروبية. اليوم، لا يوجد مثل ذلك التحدي. فتجاوز أردوغان تفويضه يقوض إرثه، مزودا منتقديه بالذخيرة، ومهددا بتقويض ما حققته تركيا في ظل نظامه.

السابق
الوصول إلى طريق مسدود في ما يتعلق بليبيا
التالي
القبض على القيادي الإخواني عصام العريان