السفير: وقائع الاتصالات بين بيروت ودمشق وأنقرة والدوحة ورام الله

كتبت “السفير ” تقول: طوي ملف المخطوفين اللبنانيين التسعة في أعزاز، مع الإفراج عنهم في صفقة مركّبة ومتعددة الطبقات والنكهات، لكن أسئلة كثيرة وكبيرة لا تزال تنتظر إطلاق سراح أجوبتها، حتى تتضح الصورة الكاملة للصفقة وخفاياها وتتماتها.
وبات واضحا من الأدوار الإقليمية التي أحاطت بمشهد النهاية السعيدة لمعاناة المخطوفين، أن “حوافز” أصحابها تتجاوز البعدين الامني والانساني الى حسابات سياسية تعبّر عن واقعية مستجدة ومحاولات استدراك وحصر خسائر وحصد أرباح من قبل أطراف تعيد انتشارها فوق رقعة الصراع السوري، ربطا بموازين القوى على الأرض والمناخ الدولي المتبدّل وتقدم خطر الإرهاب وهاجسه في أكثر من “أجندة” اقليمية ودولية.
وإذا كان المحررون العائدون من الأسر قد أمضوا اليوم الاول من الحرية في استقبال المهنئين وسرد تجربتهم، فإن مدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم اختار أن يتوجه أمس الى دمشق، في زيارة غير معلنة، حيث التقى اللواء علي مملوك وشكره على الدور الذي أدّته القيادة السورية في إنجاز عملية تحرير المخطوفين، كما بحث معه في ما يمكن فعله لاستعادة المطرانين بولس يازجي ويوحنا ابراهيم، علما أن اللواء ابراهيم كان قد أبلغ البطريرك يوحنا يازجي أنه بات مؤكدا أن شقيقه لا يزال على قيد الحياة.
ويبدو أن اللواء ابراهيم يستعد بالتنسيق والتعاون مع جهات إقليمية للمساهمة في دور تفاوضي أوسع في المرحلة المقبلة، يتصل ليس فقط بالمطرانين، وإنما بملف الأسرى لدى كل من النظام و”الجيش السوري الحر”.
وبرغم الجهود المكثّفة والمتعددة الأضلع التي استمرت حتى اللحظة الاخيرة، لإتمام عملية تحرير المخطوفين اللبنانيين وضمان وصولها الى بر الأمان، إلا أن المعلومات تفيد بأن بعض التفاصيل الطارئة في ربع الساعة الأخير، كادت تعرقل المهمة، أو على الاقل تؤخرها، علما أن مدير المخابرات القطرية لم يغادر بيروت، فيما انتهت مهمة وزير الخارجية القطري بمجرد وصول اللبنانيين التسعة الى مطار بيروت، ليغادر بعد ذلك عائدا الى الدوحة.
ويمكن القول إن قلوب بعض المواكبين لهذا الملف كادت تُخطف ايضا في الوقت القاتل، بينما كان المطار بدأ يزدحم بالوفود الشعبية والسياسية التي جاءت لاستقبال المحررين. فقد تبلغ بعض كبار المسؤولين اللبنانيين فجأة أن الاتراك يشترطون للسماح بمغادرة الزوار التسعة الى الحرية، ان يتم أولا تسليم المخطوفين التركيين الاثنين وأن يغادرا مطار بيروت الى بلادهما.
فوجئ المسؤولون بهذا الطلب الذي لا يفيد صورة تركيا، باعتبار انه يُظهرها طرفا مباشرا في ملف الخطف وبالتالي في عملية التبادل، لكنهم قرروا عدم تفويت فرصة إنهاء هذه القضية والدخول في متاهات جديدة، خاصة في ظل الاعتبارات الانتخابية والسياسية والاقتصادية الضاغطة على رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان.
وعلى الفور، تبلغ كل من مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في “حزب الله” وفيق صفا والمسؤول الأمني في حركة “أمل” أحمد البعلبكي، من قيادتيهما، ضرورة ممارسة أقصى الضغوط للإسراع في تسلم وتسليم الطيارين التركيين اللذين كانا يتواجدان في المرحلة الاولى من اختطافهما في الجنوب ثم نقلا لاحقا الى البقاع.
في هذه الأثناء، كانت الطائرة التي تحمل العائدين اللبنانيين تتأخر في الإقلاع، بعدما كان متوقعا وصولها الى بيروت قرابة السادسة مساء. وبعد فترة من حبس الأنفاس وصل الطياران التركيان الى مطار رياق، ومنه نقلا عبر طوافة الى مطار بيروت، ليبدأ في تلك اللحظة الفصل الأخير من رحلة عودة مخطوفي أعزاز الى رحاب الوطن.
سبق ذلك، قبل ايام، اتصالان هاتفيان أجراهما وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بكل من الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي، وطلب خلالهما تأمين تواصل ما مع المخطوفين التركيين، للتأكد من سلامتهما، فكان له ما اراد، وجرى بث شريط فيديو يتضمن تسجيلا لهما.
لكن المحك الاصعب الذي تجاوزته “صفقة التبادل” لم يكن هنا بل في مكان آخر. ووفق المعلومات، كادت العملية برمتها تتعثر لولا حصول مداخلات على أعلى المستويات مع القيادة السورية في الساعات الحاسمة، افضت الى الخاتمة السعيدة. ويبدو ان دمشق كانت حذرة في التعامل المجاني الذي يفضي الى تقديم تنازلات لفصائل المعارضة المسلحة وإطلاق سراح معتقليها تباعا، في مقابل الإفراج تارة عن مخطوفين إيرانيين وطورا عن مخطوفين لبنانيين، فيما لا يزال عدد كبير من مناصري النظام معتقلين لدى المجموعات المسلحة.
صحيح أن الرئيس بشار الاسد يدرك أن حلفاءه قدموا الكثير لدعم صموده وأنهم بالتالي يستحقون رد بعض من الجميل لهم، لكنه يشعر في الوقت ذاته انه بات يحتاج الى كل موقوف لدى النظام لمبادلته بالمعتقلين من جنود وضباط الجيش السوري. أوصل الاسد الرسالة وسجل موقفه، ثم عاد وتجاوب مع الجهود التي بذلت من جهات عدة لتسهيل صفقة تحرير الزوار اللبنانيين، وهذا ما يفسر حرص عدد من المسؤولين اللبنانيين على توجيه شكر خاص لسوريا، وتحديدا للأسد الذي طلب من مدير مكتب الأمن القومي اللواء المملوك تقديم كل ما يلزم من تسهيلات لانجاز الصفقة.
…أما وأن الصفقة قد تمت، بعد مخاض عسير وطويل، فإن مصادر واسعة الاطلاع أبلغت “السفير” أن العوامل الحاسمة التي ساهمت في إنضاجها هي الآتية:
ـــ الموقف القطري الآخذ في التمايز عن السياسة السعودية التي لا تزال حتى الآن تحاول عدم الاعتراف بالتوازنات الجديدة في سوريا وبالمتغيرات الدولية والإقليمية، ومن الواضح أن الامير الجديد لقطر يريد مواكبة التحولات والتكيف معها، لاسيما أن الدوحة لا تستطيع أصلا القفز فوق مصالح واشنطن وتجاهل الانفتاح الاميركي ـ الايراني، وبالتالي فإن مساهمتها الفعّالة في إنهاء قضية المخطوفين تعطي إشارة الى رغبتها في إعادة التموضع في المنطقة كما في التعامل مع الملف اللبناني، ناهيك عن رسائل الغزل السياسي المتبادلة بينها وبين ايران.
ــــ هجوم “داعش” على “لواء عاصفة الشمال” الذي كان يحتجز الزوار اللبنانيين، وشعور من تبقى من عناصره بأن ملف المخطوفين أصبح يشكل عبئا عليهم وأنه من الافضل طيّه قبل فوات الأوان وفقدان السيطرة عليه، مع الاشارة الى أن “داعش” أعلنت خلال الساعات الماضية عن القضاء نهائيا على هذا “اللواء المعارض”.
ــــ الحسابات التركية المستجدة، ورغبة أردوغان في استعادة الطيارين الاثنين، لتحسين صورته الداخلية تحسبا للانتخابات الرئاسية والمحلية المقبلة، وكان لافتا للانتباه أنه كان حاضرا شخصيا في المطار لاستقبالهما بعدما صارت قضيتهما محرجة له أمام الرأي العام التركي. وهناك من يتوقع أن يبذل أردوغان جهدا إضافيا لمعالجة ملف المطرانين المخطوفين، لإيصال رسالة طمأنة الى الأقليات في تركيا واستمالتها الى جانبه في الانتخابات، من دون اغفال ما يواجهه من تفسخات داخل حزبه وخاصة بعد قراره الترشح للرئاسة وافساح المجال أمام أوغلو لكي يتولى منصب رئاسة الحكومة من بعده.
ــــ البصمات الفلسطينية البارزة عبر تحرّك رئيس السلطة محمود عباس الذي كان قد تبلغ من الرئيس نبيه بري تمنيا بأن يساهم في معالجة قضية المخطوفين، لاسيما ان السفير الفلسطيني في انقرة معروف بحيويته وبعلاقاته الواسعة والعميقة مع المسؤولين الأتراك، والتي يمكن توظيفها والبناء عليها لتحقيق نتائج إيجابية، وهذا ما حصل بالفعل.
ــــ الحركة الدؤوبة لمدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم الذي شكلت ديناميته قوة دفع اساسية لمساعي تحرير اللبنانيين.
يذكر أن ابراهيم قال في تصريحات أدلى بها أمس إنه في بداية المهمة التي كلّفه بها رئيس الجمهورية، والتي جعلها هاجسا له، كان يحلم باللحظة التي شهدها مطار بيروت مساء السبت، وقد كان متأكدا من حصولها، فهو كان مؤمنا بأن “الزوار الذين تم تحريرهم كانوا يقصدون بيتا من بيوت الله، والذي يقصد بيت الله يسهل له الله كل شيء لينال حريته”.
وعن مصير المطرانين أوضح أن ” ماحصل ليس له علاقة بموضوع المطرانين، فموضوعهما، نعمل عليه على خط آخر وبعيد جداً عن هذا الخط، وهذا واجبنا كدولة”.
وردا على سؤال قال: لا أحب القول إن ما جرى صفقة، والأفضل أن يقال إن ما تم كان إنجازا وطنيا ادى إلى تحرير المخطوفين. فأنا الآن اعمل كمديرعام للأمن العام بعيداً عن الطوائف وبعيداً عن كل شيء. الوطن هو ما نعمل لأجله وليس المذاهب والطوائف.
والى من ينسب هذا الإنجاز قال ابراهيم: “هذا الإنجاز هو للدولة اللبنانية”.

السابق
النهار: روسيا تسعى إلى إطلاق المطرانين المخطوفين
التالي
الديار: إعتذر أو شكّل يا تمام بك فالناس جائعون والبلاد مشلولة