من يحاسب رجال الدين؟

ليست قضية الكاهن منصور لبكي، المتّهم بالتحرّش الجنسي بالأطفال، قضية هامشية تقلّ أهمية عن قضايا أخرى في لبنان. إنّها سكين في غمد الكيان الطائفي اللّبناني الّذي ما زال عاجزاً عن أن يرتقي إلى مستوى دولة مدنيّة عادلة، بعيداً عن محاكمة أخلاق الكاهن أو البحث في خلفيات سلوكه الشاذ والمنحرف، الذي ليس الأول من نوعه في تاريخ الكنيسة حول العالم

في العام 1999: حوكم الكاهن الكوري يونغ سوك بالسجن عشر سنوات بتهمة التحرش بالأطفال. في العام 2006: حُكم على الكاهن الألماني بول شايفر بالسجن لمدة عشرين عاماً بتهمة التحرش بأكثر من 20 طفلا.. والنماذج في هذا الإطار كثيرة.

قضية الكاهن اللبناني، والصمت الرسمي حولها، والعقوبة التي تكاد لا تتجاوز “هزّ العصا”، ولا ترقى بالطبع إلى مستوى الصفعة، وبعض الأصوات المدنية التي تدافع عن لبكي، كلّها ليست سوى مرآة لحال لبنان الممزّق بين أنياب الطائفية والسلطات غير المحدودة لرجال الدين وتسلّطهم على الحياة السياسية.

فالقضية أحيلت إلى الفاتيكان ولم يتحرّك القضاء اللّبناني ليتّخذ أي إجراء ضد لبكي أو ليتحقق من الموضوع. الضحايا وأهاليهم لم يظهروا إلى الإعلام وظلّوا مجهولي الهوية بالنسبة إلى الرأي العام. كأنّه ليس من حقّهم أن يطلقوا الصرخة.

المدافعون عن لبكي والمتباهون بإنجازاته خائفون من أن يستغل البعض القضية – أي بلا مواربة من أن يزايد المسلمون على المسيحيين. كأنّهم غافلون عن أنّه استغل منصبه الكنسي وتستّر وراءه: أليس من الأجدر بهم أن يطلبوا أن تأخذ العدالة مجراها احتراماً لصورة الكنيسة وهيبتها؟

لا نغفل نحن، من نريد وطناً حقيقياً، عن جرائم تحت غطاء ديني في جميع الطوائف ومنها التحرّش بالنساء، وأحياناً في المحاكم الشرعية، واستغلال أوضاعهن، خصوصاً اللواتي ليس هناك من يحميهن.

لا نغفل أيضاً عن فضائح مالية ارتبطت بدار الفتوى وتم التعتيم عليها. ولا نغفل عن قضية الشيخ حسن مشيمش، المحكوم بجرم التعامل مع اسرائيل من دون أن تكون الأدّلة كافية لإدانته: أليس الحكم عليه هنا مرتبطاً بتغريده خارج سرب الطائفة الشيعية؟ وكيف يحاكم رجل دين ويسجن بسبب رأيه السياسي، ويبقى حرّا بلا محاسبة كاهن تحرّش بأطفال لبنانيين؟

أيضا: هل باتت المذاهب تحاسب رجال دينها خارج القوانين الوضعية؟ هل يمكن أن يخرج “حزب الله” غدا ليقول ان المتهمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري “شيوخ” وتمّت محاكمتهم وها هم يقضون فترة عقوبتهم “بالتنسّك في بنت جبيل”؟

لا نغفل عن كل ذلك لأننا لسنا فئويين ولا نقيّم الناس – سواء كانوا رجال دين أو لا – بحسب طوائفهم. ولأن لا رقيب ذاتي على عقولنا ولا نريد أن نعيش في إنكار الواقع المرّ.

لا نغفل ولكن نسأل: هل قدسية رجال الدين تمنعنا، نحن المواطنين العاديين المؤمنين بالله، من أن نحاسبهم؟

من يحاسب على فتاوى الموت التي تصدر عن مختلف المجتهدين في الدين؟

من يحاسب أيضاً على استباحة الدم؟

في الفيلم الوثائقي “ليالي بلا نوم” للمخرجة إليان الراهب، يتحدّث في أحد المشاهد مسؤول المخابرات السابق في القوّات اللبنانيّة، أسعد شفتري، عن دور أحد رجال الدين المسيحيين في الحرب واستغلال العقيدة لاستباحة القتل. حديثه مبهم، وهو يرفض ان يذكر اسمه، لكن الغصّة واضحة. ولا بدّ أنّه هناك في المقابل رجال دين مسلمين رعوا الحرب الأهلية سرّاً أو علناً. هؤلاء أيضاً منعتنا الغمامة على عيوننا من أن نرى أخطاءهم.

يستطيع المدافعون عن الكاهن المتّهم بالتحرش الجنسي أن يغرقونا بالتباهي بانجازاته، لكن هل يمكنهم أن يخبرونا ماذا قد يكون موقفهم إن كان أحد أولادهم أوبناتهم من ضحاياه؟

السابق
قتيلة صدما على طريق عام جديتا شتورا
التالي
النجف بدأ يهمس: القتال مع الاسد ليس من المصلحة