شيعي شيوعي وطفولة الحرب السعيدة

شيوعي
هي سيرة علي مراد، ابن الدكتور أحمد مراد، حفيد أبو مراد. سلسلة شيوعية أبا عن جدّ. والشاب يتذكر مشاعر الطفل الذي كانه. وكيف انقلب الجدّ المؤسس الى التديّن والصلاة. وكيف أنّ "الواو" الفاصلة بين الشيعي والشيوعي هي اكثر من مجرد حرف.

منذ ايام البكالوريا وسنوات الجامعة, وانا اخاف من الصمت. أجدني بحاجة دائمة للاستماع الى الموسيقى كي أقوى على القراءة والتحليل والكتابة. في اذنيّ دائما سماعات تهدر بموسيقى واغان من كل حدب وصوب. لا ادري كيف اختارها عند كل صباح. أحيانا عن طريق صدفة. أحيانا, أهرب وأخاف من تكرار الموسيقى نفسها فأقرر التجديد. لكنني كثيرا ما أعيد سماع نفس الاغاني مرات ومرات. مع الوقت بدأت افهم سياق اختياراتي. كلما اشتقت لحبيبتي استمع الى وردة. كلما تذكرت أصدقاء المراهقة في النجدة الشعبية في صيدا اجدني في اليوم التالي اسمع فرقة “وشم” أو “مخول قاصوف”. كلما اردت ان اهرب من أخبار لبنان والعلم العربي أجدني التجئ الى جاك بريل. كلما اقتربت من انهاء جزء من اطروحة الدكتوراه أنحاز لأغاني أم كلثوم الطويلة. كلما انسكنت بالحدث المصري أجدني أعيد سماع الشيخ أمام. لكن, بين الحين والآخر كان يحدث ان استرق السمع الى أغاني مارسيل خليفة القديمة وتحديدا كاسيت “عصافير الجليل”. أكرر سماع هذه المجموعة بشكل شبه دوري مرتين في الشهر على أقل تقدير. تشعرني بشجن غير مزعج يصاحبه أمان داخلي غير مفهوم.

الملل هو القوت اليومي لمن يعيش في مدينة فرنسية صغيرة. لديك المتسع من الوقت كي تفعل ما تريد. ولان الاحتمالات والبدائل محدودة يكون التفكير الداخلي على صوت عال هو قوتك اليومي. حدث انه منذ أكثر من سنتين وانا أعمل جنباَ الى جنب صديقي السوري. نذهب الى المكتبة كل صباح. نأكل سويا ونأخذ الاستراحات لنتحدث عن كل شيء تقريبا: عن سوريا وعن لبنان, عن السياسة الفرنسية, عن الازمة الاقتصادية, عن سارتر وكامو, عن السينما الاوروبية والاميركية, عن الاخوين كوهين وتارانتينو, عن الطفولة, عن المراهقة… حتى نشأ بيننا حبل من الصداقة اليومية المكثفة. نتفق كثيرا, نختلف بعمق, تعلو اصواتنا ثم تنخفض. ومن ثم نعود الى اطنان الكتب التي تنتظر ان نستخرج منها تحليلات اضافية للدكتوراه.وجدتني أخبره يوما عن علاقتي الملتبسة مع عصافير الجليل. أنا الذي هجرت ايديولوجية العائلة الشيوعية منذ سنوات وشفيت من متلازمة زياد الرحباني المهينة. لكنني لا أزال عالقاَ عند تلك التي “مضت تبحث خلف البحر عن معنى جديد للحقيقة”. واذ نحن صرنا على مدخل المكتبة حيث تبدأ حرمة الصمت الجامعي: “مارسيل هو طفولتك ولا شيء عداها. مارسيل هو عنوان اطمئنان الطفل الذي في داخلك وحنينه للأمان العائلي”. قالها مسرعا غير آبه. ثم مضينا الى أعمالنا ومللنا اليومي…

هي اذن طفولتي التي تسكن داخلي وتقتات من فتات الاغاني. يظن الرجل الذي اصبحته انه نجح في تجاوز ماضي عائلته الشيوعي. لكن يبدو ان شيئا ما في داخله لا يزال عالقا هناك, عند الدير في الرميلة, عند الشاطئ الذهبي وقرب مركز الحزب على البوابة الفوقا. منذ ان بدأت الذاكرة بحفظ الايام في صيدا, أعلم ان أصدقائي في الحي وفي المدرسة قد أشعروني بهوياتي المختلفة عن السائد: البعض منهم اعاد على مسامعي ما سمعوه من اهلهم فأفهموني أنني شيوعي كوالدي. غيرهم, أبلغوني انني شيعي كوالدي وأنّ نبيّنا هو عليّ لا محمّد. حسناً, وبما ان الصحابة والصحبة لا يجتمعان على ضلال اقتنعت انني حتما كوالدي: شيعي وشيوعي! ذلك التشابه اللغوي بين التعبيرين لم يسهّل المسألة. مرّ وقت لا قدرة لي على تذكّر طوله قبل أن أتجرّأ وأسأل والدي عن هذا الالتباس. يومها اضطر ان يزيل هذا الالتباس من عقل الطفل الذي كنته. لم أعد أذكر ما قاله لكنني أذكر انني استطعت فهم كون “الواو” الفاصلة بين الشيعي والشيوعي هي اكثر من مجرد حرف.

شيوعيتي التي هجرتها منذ زمن, كنت قد ورثتها عن والدي الذي ورثها بدوره عن والده. لم أسأله يوما عن علاقته بوالده. لم أجرؤ على ذلك وربما لن أتجرأ يوما. ليس سهلا على المرء أن يتخيل علاقة والده مع جده. شيء ما يمنعني من الاقتراب من طفولته في عيترون ومن مراهقته في بيروت او من شبابه في موسكو. ربما لانني لا أود ان اعرفه كي استمر في لومه على غيابه عنّا من أجل حزبه تاركا لامي عبء تفاصيلنا اليومية. ربما لو علمت ان جدي لم يأخذ والدي يوما الى نزهة او الى بحر لعجزت عن الاستمرار في لومه على قلة نزهاتنا العائلية. ربما ما زلت أحنق من حضوره الاجتماعي العام الطاغي ومشاركة كل الناس لنا بحبّنا له.

ابو مراد

جدي ابو مراد هو من أوائل الشيوعيين في عيترون والمنطقة. بقي يناضل في حزبه حتى اجتياح العام 1978 واحتلال القرية من قبل العدو الاسرائيلي. رفض واقع الاحتلال وآثر مواجهته برفض كل اشكال المهادنة معه فاختار العزلة في بيته. نتيجة هذه العزلة المترافقة مع البعد عن الاولاد والاحفاد وفي مكان ما شعور دفين بالهزيمة, أعاد جدي اكتشاف كلّ الموروث الدّيني الكامن في داخله لعقود خلت والذي تربى عليه في طفولته. تدريجيّاً قرّر أن يعتزل الحياة ويعيش متنسّكا حتى يومه الاخير يصلّي وبتعبّد أكثر من 15 ساعة في اليوم. بقي موقفه ملتبساً من ماضيه الشيوعي. دينيّاً, كان لديه شعور عميق بالذنب والندم من انعكاس الأمر على اولاده وأحفاده وأهل منطقته. اما سياسيّاً واجتماعيّاَ فقد ظلّ يقول انه صار شيوعيا لانه ثار على الظلم. وهو، وإن كان نادماَ على شيوعيته، إلا أنّه باقِ على ثورته على الظلم.

في آخر لقاء لنا, اجابني على سؤالي له, مؤكّدا انه لو عاد به الزمن لما قبل ان يصبح شيوعيا ولو لثانية واحدة… شيء واحد لم يستطع جدي أن يخلعه من قلبه ومن عقله وحمله الى القبر مع سنينه الـ91: حبّه وتقديره وحزنه على استشهاد شخص واحد… بالنسبة للرفيق ابو مراد فإنّ التاريخ انتهى ولم يعد للسياسة معنى وتوقفت عقارب النضال ذلك اليوم في 16 آذار 1977، لحظة اغتيال المعلّم كمال جنبلاط. رغم شيوعيته الصلبة, كان والدي ولا يزال ديمقراطيّاَ حقيقيّاً. ديقراطيّته ممارسة يومية وحياتية. أذكر تماماً المرحلة التي تلت الانتخابات النيابية في العام 2000 وما أعقبها من انقسامات في الحزب. يومها حدث ان تواجهت مع والدي الشيوعي للمرة الأولى. كنت أشارك الى جانب عدد آخر من الرفاق في هذه الاجتماعات الى جانب الرفيق أحمد. كما جرت العادة انقسمت صفوف المعارضة الموحدة حول أمور كثيرة. كنا انا واياه على طرفي نقيض. كانت نقاشات حادة فيها الكثير من القناعة العميقة دون ان تخلو من عقدة قتل الأب أحيانا كثيرة. جنوباً كانت تجري في منزلنا ما يحتّم عليّ متابعة النقاش بعد انتهاء الاجتماع واعتراضات امي من ضجيجنا الذي يعلو على صوت التلفاز. حين كانت تعقد في بيروت المشكلة كانت اكبر. اذ كنت أستغل وجود والدي الرفيق كي أحصل على المزيد من النقود ثمن سكرة اضافية في الحمرا لي وللشباب الطفران. مع انتهاء الاجتماع كنت أتوجّه اليه طالباً النقود التي لم يبخل يوماً بها على خصومه الشباب. في أحد الاجتماعات العاصفة اقترب صديقي فاروق منّي وقال هامسا: “هدّي اللعب على بيّك بدنا نسكر اللّيلة”. والدي كان على الدوام ديمقراطيّاً معي ومع الشباب. رغم الصراخ والخلافات لم يبخل علينا يوما بثمن بضع زجاجات الالمازة على درج الدومتكس في الحمرا.

يوم بكى ابي

بالقرب منه, رأيت أحد أبشع المشاهد في طفولتي. كان ذلك على حاجز المخابرات السورية على مدخل صيدا. كنا ذاهبين إلى البحر عند الرميلة حين صدمت سيارة عمومية سيارتنا من الخلف . كان حادثاً بسيطاً. نزل والدي والرجل وكان لطيفاً جدا واعتذر . لكن الضابط وصل وبدأ يهين الرجل. قال له والدي: ما في شي خلصت. أجابه الضابط بلهجة تهديد: طلاع بالسيارة دكتور (رأى الاشارة) وما الك خصة. إستجاب والدي مكرهاً وفيما بعد كنت أرى من الزجاج الخلفي وللمرة الأولى في حياتي رجلاً يضرب ويهان وأسمع رنة صوت الكف على وجه انسان. منذ منع الكحول في النبطية اجتاحني مجدداً قلق طفولي حسبتني نسيته. يوم كانت أمي تنتظر على الشرفة وهي لا تدري إن كان والدي سيغتال كرفاقه أو يعود سالماً؟ كانت المرة الاولى التي رأيت والدي يبكي يوم اغتيال رفيقه وصديقه الدكتور لبيب عبد الصمد، والثانية كانت يوم اغتيال مهدي عامل, والثالثة يوم استشهاد صديقه ورفيقه الدكتور حكمت الأمين. ومع تتالي المصائب التي أصابت العائلة, لم يعد للتعداد من معنى.

لا زلت مقتنعاً ان الاتحاد السوفياتي السابق لم ينصفني ولم يمنحني التكريم الذي استحق لا ميداليةً ولا وساماً. كان حالي كحال كل الأولاد الذين ولدوا في بيوتات شيوعية. الدفاع عن الاتحاد السوفياتي قوتنا اليومي: في الحي كنت اتحوّل الى خبير عسكري يدافع عن كفاءة الكلاشينكوف مقابل الـ M 16 وعن الميج مقابل الفانتوم والسكود مقابل الباتريوت. في حصّة التاريخ كنت اتغلّب على رهبة الخوف من المعلمة وتذمّر الزملاء وأتحول الى باحث تاريخي يرفض القول ان انتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية سببه البرد القارس والسلاح الغربي بل شجاعة الجندي السوفياتي. في حصة الجغرافيا اتحوّل الى خبير زراعي يدافع عن محاصيل القمح في سهول اوكرانيا وعن عظمة الكولخوزات والسوفخوزات. في ملعب المدرسة اتحوّل الى خبير نفسي اجتماعي يحاول اقناع زملائه ان الطفل السوفياتي هو أسعد طفل في العالم. أيام بعد انهياره قال لي صديق الطفولة في الحيّ بما يشبه العزاء أنه بالرغم من كفاءتي الاستثنائية في الدفاع عن المرحوم بوجه المدافعين عن أميركا, انهار ما انهار وبقي ما بقي. بالرغم من كل ما جرى ويجري يبقى الشفاء التام من أحلام الطفولة أمراً مستحيلاً. تحسّرت وقتها على ضياع حلم والدي. اذ لم يعد بامكاني ان أحلم بمشاركته حلمه في الذهاب الى موسكو في العام 2017 كي يشاهد العرض العسكري للذكرى المئوية لثورة اكتوبر البلشفية.

على الدوام لامني الاصدقاء – الرفاق على التصاقي بتلك المرحلة. لم يكن ذلك الحنين لا سياسيا ولا ايديولوجيا. هو حنين لحضن الطفولة الملتصق بالوالد الحاضر الدائم. انا عشت طفولة سعيدة جدا في زمن الحرب والشيوعية العائلية. حتى المعارك ما كانت تزعجني بل تشعرني عند اشتدادها بالامان وانا اختبأ قرب والدي الذي لم نكن نراه كثيرا. كنت متأكداً ان والدي قادر ان يحميني من كل الرصاص والقصف الهادر. المعارك كانت مناسبة لاجتماع العائلة ورؤية الاقارب في المدينة او المنطقة الاكثر امنا. اشتداد المعارك يعني تعطيل الدراسة. اما بعد انتهائها فكنا ننتشر في زواريب حي الزهور في صيدا نجمع الرصاص ونكدسه دون سبب واضح. كما الحرب هي طفولتي كذلك هي شيوعية والدي وعائلتي التي لن أقوى على قتلها. سأبقى حاضنا على الدوام ذلك الطفل الذي في داخلي. إذ لم تكن يوما علاقتي مع شيوعية والدي، بل كانت علاقتي بوالدي فحسب.

هي كذلك: لم تكن يوما علاقتي مع شيوعية والدي. هي كانت علاقتي بوالدي فحسب. هذا هو أنا. كيف لي أن أكون غير ما أنا عليه ؟ لن أبحث “خلف البحر عن معنى جديد للحقيقة”. كيف لي أن أقوى على ذلك. نعم، كنت طفلا شيوعيّا سعيداً، ابناَ لوالد شيوعي رائع.

 

 

السابق
هيئة المواساة الوطنية.. لفريقين مهزومين
التالي
في ظل تبدل المعطيات الداخلية والخارجية: هل تغير قوى 14 اذار رؤيتها الحكومية؟