لكلّ مواطن الحقّ في بيع أرضه لمَن يشاء

قد يقول قائل إنّ هناك تكاملاً بين السعي لاسترجاع القرار السياسي الوطني المسلوب منذ العام 1969، وبين السعي الى الحفاظ على ملكيّة الأرض التي تعكس في بلد تعدّدي صورة هذا البلد بتنوّعه وتعدّده، وذلك على قاعدة أنّ أيّ تفريط بميثاقية الأرض يشكل تفريطاً بميثاق العيش المشترك، ما يجعل الحفاظ على هوية الأرض جزءاً لا يتجزأ من الحفاظ على هوية الوطن.

وعلى رغم من صوابية هذه القاعدة جزئياً، إلّا أنّ الأساس يبقى في الحفاظ على هوية البلد مقدمة للحفاظ على هوية الأرض، لأنّ لا قوّة في العالم يمكنها إقناع المسيحيين بعدم الهجرة من لبنان في حال تحوّل نظامه السياسي نظاماً ديكتاتورياً وساحة أبدية للنزاعات الإقليمية.

فالهجرة المسيحية من الشرق، الذي كان مسيحياً في الأساس، سببها غياب الحريات على أنواعها، وكذلك غياب فرص العمل والمساواة والعيش الكريم، وعبثاً محاولة الدفاع عن وجود مسيحيّ مشرقيّ قبل استبدال الأنظمة القائمة بأنظمة مدنيّة وديموقراطية حديثة، وما استمرار ما تبقى من مسيحيّين مشرقيّين إلّا لغياب البدائل، وبالتالي الرهان على بقائهم في أرضهم هو وهم، وتكفي مراجعة أعدادهم في العقود الأخيرة لتبيان ما سيؤول إليه وضعهم ومصيرهم الحتمي في العقود اللاحقة.

وما ينطبق على المسيحيّة المشرقيّة ينسحب على المسيحيين اللبنانيين الذين هاجروا لبنان بأعداد كبيرة، وعلى مراحل نتيجة الأزمات والحروب المتتالية والتحديات الوجودية، وتراجع حضورهم الديموغرافي متأتٍ قبل أيّ شيء من تراجع ثقتهم بلبنان، واستمرارهم في أرضهم شرطه الأساس عودة ثقتهم ببلدهم، ومن هنا الأولوية هي للدفاع عن عودة الدولة في لبنان واستطراداً الاستقرار، لأن من دون الدولة والاستقرار، كلّ المحاولات لإبقاء المسيحيين في أرضهم مصيرها الفشل أو في أحسن الحالات تأخير هذه الهجرة بضع سنين إضافية.

فالعدوّ الأول للمسيحيين ولجميع المواطنين الراغبين العيش بكرامة وحرية هو الحروب المستدامة، هذه الحروب التي تَفرض على المؤسسات المسيحية الكنسيّة والحزبيّة والأفراد تركيزَ جهودها على قضية السلام بدلاً من ضياعها في مسائل ثانوية لن تقدّم ولن تؤخّر، لا بل تساهم في تأبيد الأمر الواقع، والسلام طريقه واضحة وتتطلّب تسليم “حزب الله” سلاحه وتحييد لبنان عن النزاعات المسلّحة وإعادة الإعتبار للدولة التي تجسّد المشترَك بين اللبنانيين.

وإذا كان قلق المسيحيين على وجودهم ومصيرهم مبرراً في ظلّ الوضع اللبناني المأزوم، فإن من غير المبرر على الإطلاق ردود فعلهم الإنغلاقية والتقوقعية والرجعية التي تُخوِّن كلّ مسيحيّ يبيع أرضه لمسلم، أو تحرم المسيحيين من بيع أرضهم لغير المسيحيين، لأنه عدا عن أنّ الأرض اللبنانية هي لجميع اللبنانيين، ولا توجد أرض مسيحية وأخرى إسلامية، أو منطقة مسيحية وأخرى إسلامية، فإن دور المسيحيين هو في الانتشار على مساحة الوطن لا التراجع إلى حدود طائفية وهمية، كما أنّ دورهم هو في تشجيع الطوائف الأخرى على أن تحذو حذوهم، لأن بالتفاعل وحده تنجح الفكرة اللبنانية، وخلاف ذلك يحوّل لبنان “غيتوات” وغير قابل للحياة.

وفي موازاة الدور المطلوب من المسيحيين في رفع عنوان السلام ومواجهة كل من يُبقي لبنان ساحةً، فإنّ في إمكان مؤسساتهم التي تعطي الأولوية للعنوان العقاري أن تعمل على إنشاء مؤسسات توفر فرص العمل للمسيحيين وتبقيهم في أرضهم، بدلاً من التصدي لعمليات بيع الأراضي، خصوصاً أنّ لكل مواطن الحق في بيع أرضه لمن يشاء، وخلاف ذلك هو تعدّ على الحريات العامة والفردية والدستور والقيم الانسانية.

ومن هنا يجب مواجهة عمليات التخويف المقصودة، أو غير المقصودة، التي تؤدي عملياً إلى دفع المسيحيين للتنازل والتخلي عن أقدس مقدساتهم، أي الحرية، مقابل التسليم بالأمر الواقع القائم، وهذه المواجهة لا تتمّ على قاعدة مسايرة الفئات الخائفة أو التي تتعمّد التخويف، إنما عبر تبنّي خطاب سياسي واضح يدعو المسيحيين إلى لبننة الأرض، بدلاً من التخويف من أسلَمتِها والدعوة إلى مَسحَنتِها، واللبننة تبدأ بالحرية وتنتهي بالسيادة والاستقلال.

السابق
توقيف 111 شخصا
التالي
سلب مواطن عند جسر الكوكودي