موت خطاب الممانعة: الأسد ليس رجلا؟

والحال هذه بات ليبراليون كثيرون يعتبرون، علنا وفي كتاباتهم، أنّ "بشّار الأسد ليس رجلا إطلاقا، قياسا إلى اعتباره زعماء العرب أنصاف رجال". والحجة أنّ "الزعماء حالفوا الغرب من منطلق القوة ولم يستسلموا على أقدامه".

ما عاد الممانعون يصدّقون أنفسهم حين يتحدّثون. ناهيك عن أنّهم يكذبون في حديثهم عن “إزالة إسرائيل”، وحين يقولون إنّ المعركة الآتية “ستمطر تل أبيب بالصواريخ”. هم أنفسهم لا يصدّقون أيّ كلمة مما يقولون. وهذه جديدة في السياسة اللبنانية.
حين يكذب سياسيو لبنان على ناخبيهم، بوعود الإنماء والتوظيف ومحاربة الفساد، هذا شيء قد يكون مألوفا في العالم كلّه. لكن حين يكذبون بوعود “الإنتصار على العدو الخارجي”، مثلما كان الحال أيّام الإعلام الكاذب على أبواب هزيمة العام 1967، فهذا انتحار سياسي كبير. لكن ما يواسي هؤلاء أنّ الجماهير التي كذب عليها جمال عبد الناصر في 67 خرجت لتطالبه بالعودة عن استقالته بعد الهزيمة.
فحين تصير السياسة “لعبة عالمكشوف”، لا يعود ضروريا التمسّك بالحديث عن “المبادىء”. والممانعون الذين يقولون حججهم ويضحكون، كمن يسخر من نفسه قبل محادثه، هم أنفسهم ما عادوا يقبضون أنفسهم بشكل جدّي.
فحين تقول لممانع إنّ الرئيس بشّار الأسد وافق على تسليم سلاحه الكيماوي، بكلّ ما في “تسليم السلاح” من انهزام ودونية، لا يجد غير الشتم والإتهام بالتبعية لأنظمة الخليج كي يردّ عليك. ولكن مهلا: نحن حفنة من العملاء الصغار لإسرائيل والخليج وأميركا، لكن ماذا عنكم؟ أنتم أبطال هذه الأمة وصنّاع مجدها، لماذا تستسلمون على أبواب المعركة الفاصلة؟
أنتم المقاومون الممانعون الأبطال، فلننطلق من هنا لأنّكم لا تقبلون بأقلّ من هذا المنطلق: كيف لبطلكم الأعلى، رئيس قلب العروبة النابض، أن يسلّم سلاحه إلى الأميركيين؟
يجيبك الممانع: سيضعه تحت إشراف دوليّ. ولكن أيها الممانع إذا عدنا إلى القاموس الممانعاتي فإنّ “المجتمع الدولي” إسرائيلي منذ القرار 425. ولا شيء إسمه “الأمم المتحدة لأنّها “دمية إسرائيلية”. والولايات المتحدة الأميركية، وفق القاموس نفسه، هي “ألعوبة يسيطر عليها الوبي الصهيوني”. وبالتالي فإنّ الأسد سيسلّم سلاحه إلى إسرائيل. فكيف لبطلكم الأعلى أن يسلّم سلاحه إلى العدوّ؟ أليس الأجدى به أن يقاتل عدوّه به. أليس الموت لكم عادة وكرامتكم من الله الشهادة؟
يجيبك الممانع: على الأقلّ هو في موقع المواجهة مع أميركا وإسرائيل.
ماذا تقول له: هل تذكّره بأنّ الأسد تعرّض لعشرات الضربات الإسرائيلية ولم يردّ؟ لا بأس. لكن ماذا عن تسليم “السلاح النوعي والردع الإستراتيجي مع إسرائيل: السلاح الكيماوي؟”.
يخرج عليك هنا المسؤول في “حزب الله” محمود قماطي ليقول إنّ “المقاومة التي أوجدت توازن رعب مع إسرائيل توسّعت لتوجد الممانعة توازن ردع مع أميركا”، في تحليله تأجيل الضربة الأميركية (وليس إلغاءها بالطبع).
ماذا ستقول لهذا العقل؟ هل يصدّق هو ذلك؟ هل يمكن أن يسلّم “حزب الله” سلاحه لتأجيل أو منع ضربة أميركية أو إسرائيلية ضدّ لبنان؟ أو حتى ضدّ الضاحية؟ أليس توازن “الضاحية مقابل تل أبيب” هو الذي يحمي لبنان؟ فلماذا إذا لم يحمِ نظام الأسد توازن “دمشق مقابل تل أبيب”؟
هنا وقع عطب أساسي في خطاب الممانعة. فكلمة “ممانعة” تعني “المنعة” لمحور كامل أمام الخوف من إسرائيل أو الاستسلام لها أو حتّى مجرّر التفكير في التصالح مع العالم الخارجي، الغربي تحديدا، في سياق فهم طبيعة الدور العربي في النظام العالمي. و”الممانعة” هي الإصرار على محاربة إسرائيل (هذا أمام الجمهور العريض) وعدم التصالح أو التفاوض معها. لكن من لا يفاوض ولا يصالح ولا يعترف ويقاتل، كيف يسلّم سلاحه الأقوى إلى هذا العدوّ؟
والحال هذه، العطب هذا في خطاب الممانعة سيكون كافيا لتحطيم الخطاب، على مشارف موت الفكرة كلّها. هنا انكشف الممانعون، ليس أمام خصومهم الذين في معظمهم يعرفون كذبهم وزرف ادّعاءاتهم، بل أمام جمهورهم، والأهمّ: أمام أنفسهم.
إكتشفوا أنّهم ضعفاء وأنّهم يعيشون على فتات التوازن العالمي الهشّ ليوحوا لجمهورهم بأنّهم أقوياء ويصنعون الفارق. تماما كما فعلوا حين أوهموا جمهورهم أنّ حرب تموز 2006 كانت “دفاعا عن لبنان” وهي كانت “تجاوزا للخطّ الأزرق” الذي رسمه “حزب الله” نفسه بيد العميد أمين حطيط. وذلك لتقوية موقع إيران في التفاوض الدولي حول مشروعها النووي. وكان تدمير لبنان الذي دفعنا كلّنا ثمنه.
اليوم يكتشف الممانعون زيف ادّعاءاتهم وكم أنّهم كاذبون وواهمون وضعفاء وجبناء يسلّمون سلاحهم إلى العدوّ، ويتقبّلون منه القصف والضرب والسحاسيح. خطاب الممانعة يموت، والممانعة، ليس إنشاء بل توصيفا، هي “ممانعة تسليم السلطة إلى الشعب” فقط، ولا بأس من تسليم الكرامة والسلاح (زينة الرجال) إلى العدوّ.
والحال هذه بات ليبراليون كثيرون يعتبرون، علنا وفي كتاباتهم، أنّ “بشّار الأسد ليس رجلا إطلاقا، قياسا إلى اعتباره زعماء العرب أنصاف رجال”. والحجة أنّ “الزعماء حالفوا الغرب من منطلق القوة ولم يستسلموا على أقدامه”.

السابق
ادريس يعلن رفض الجيش الحر للمبادرة الروسية الاميركية حول الكيميائي
التالي
سقوط جريحين جراء قصف من الجانب السوري على سهل اللبوة في البقاع