استحالة التعايش في سورية

مع تدفق السلاح ولو بكميات ونوعيات محدودة لا تقاس بترسانة النظام، ومع تغيير بعض «المرجعيات» تعليماتها للفصائل التي تدعمها، ومع اختلالات ملموسة في قبضة النظام هنا وهناك رغم تفوقه الناري ورفده بعشرات – نعم عشرات – آلاف المقاتلين من الخارج… أمكن لمقاتلي المعارضة السورية، من «الجيش الحر» ومجموعات اخرى، البدء باستعادة زمام المبادرة وشيء من التوازن الميداني في عدد من المناطق.

أثبتت الوقائع أن ما أوحى به النظام، غداة معركة القصير، لم يعد واقعياً. فالسيطرة الكاملة وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء واستئناف الحكم والتسلّط أصبحت تتطلّب أكثر من خبرات ايران و»حزب الله». فالمناورة للالتفاف على حلب من ريفها الشمالي لم تدم سوى أيام، وتأكد للنظام بعدها أن الأفضل تجريب الممكن لذا عكف على تحسين موقعه في حمص من حيث توقف في شباط (فبراير) 2012 عند أبواب حي الخالدية المدمّر والخالي من السكان ولا تتجاوز مساحته الكيلومتر المربع الواحد، واستغرق اسقاطه أكثر من شهر ونحو أربعين محاولة اقتحام. أما الممكن الآخر فهو ابعاد جبهة القتال عن قلب دمشق باتباع سياسة الأرض المحروقة واستخدام السلاح الكيماوي. والممكن الثالث هو فتح حروب وجبهات جديدة بالوكالة، على غرار ما تشهده محافظة الحسكة بين «حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي» و»جبهة النصرة» ومن لفّ لفّها.

هذه حرب داخل الحرب تشير الى أن النظام لم يفقد القدرة على اللعب بالأوراق الداخلية ذات الامتدادات الإقليمية. ورغم أن لا يتطلع من خلالها الى تحقيق «انتصارات» لتوطيد سلطته إلا أنها تصبّ في خطّته الأساسية لتفكيك البلد. ففي تحليل لتوزّع قوات النظام وحركتها، مع القوات المؤازرة الآتية من ايران والعراق ولبنان واليمن وباكستان، يتبيّن مثلاً أن النظام لم يعد معنياً بمنطقة درعا جنوباً، ولا بمنطقة دير الزور التي حوّلها الى دمار وشرّد أهلها خصوصاً نحو الحسكة، وهذه أيضاً يبدي تخلياً واضحاً عنها رغم أن أجهزته تشرف على ادارة المعركة فيها بمشاركة مباشرة من «خبراء ايرانيين»، وحتى حلب التي خسر فيها مطار منّغ لم يعد مهتماً إلا ببقاء الوضع فيها على حاله في انتظار المساومات على الحل التقسيمي.

في العديد من المناطق، من ادلب – جبل الزاوية الى الغوطة الغربية الى الحسكة وريف حماه وغيرها، عمل النظام دائماً على حالات ملتبسة لم يمانع بأن تكون مزدوجة النشاط… والولاء، وقبل بمسايسة «ثوارها» وربطهم بتجار ومتموّلين يشكلون «مصادر» لتلبية احتياجاتهم ويمررون لهم «نصائح» لتقنين عملياتهم. وقد أفاد ذلك في تحييد بعض أنحاء الغوطة الدمشقية حتى أن «المموّل» دعا جماعته الى افطارات جرى تصويرها، وتأكدت فاعليته في الحسكة من خلال عشيرة طي الباقية على ولائها للنظام، كما في بعض تخوم حماه رغم أنه – مثلاً – لم يفلح كلياً في تحييد منطقة عشيرة الحديديين التي يتحدّر منها وزير الدفاع فهد جاسم الفريج الذي حال هجوم للثوار على حاميتها المؤلفة من ست دبابات دون حضوره مأتم والدته المتوفاة. ومع ازدياد الحاجة الى المال والسلاح ازدادت الاختراقات التي تولّى «وسطاء» النظام، بإشرافه، تنظيمها وتوجيهها، وقد ظهرت أولى معالمها في بعض مناطق الغوطتين الغربية والشرقية.

ورغم شيوع «ثقافة» الشك بالآخر والطعن به لدى الطرفين، وبالأخص في صفوف المعارضين، إلا أن وقائع كثيرة أظهرت أن العديد من الوجوه برز فجأة ومن دون مقدّمات للعب أدوار ضباط ارتباط وتنسيق، ولا تزال تمارس هذه الأدوار رغم انكشاف استمرار علاقاتها مع النظام. والمفارقة أن هؤلاء معتمدون من جانب الدول الصديقة، حتى أنها أحبطت محاولات لاستبعادهم أو جددت الاعتماد على من استُبعد منهم.

لكن ظاهرة «الازدواجية» هذه أفادت أخيراً وعلى نحو مكشوف في استعادة بعض قرى جبل العلويين التي سيطرت عليها مجموعات مختلطة كان الوجود الغالب فيها لعناصر تنظيم «دولة العراق الإسلامية» التابع لتنظيم «القاعدة». كان الهجوم مباغتاً للنظام، كما لقيادة «الجيش الحر»، ولذلك سقطت احدى عشر قرية بسرعة بعد هروب المدافعين عنها ومعظم سكانها. وإذ جيء بهؤلاء لإيوائهم في بعض مدارس الرمل الشرقي في اللاذقية قوبل المشرفون باستهجان الهاربين واستيائهم، ويتداول جنود بشيء من التندّر قول أحدهم مستنكراً: «أتعاملونا كأننا سُنّة!». وبعدما تردد أن رئيس أركان «الجيش الحر» طلب من قادة المهاجمين المغادرة لأن عملهم يغلب عليه «الطابع الطائفي» انتقل الرجل الى المنطقة ليطلع بنفسه على سير المعارك، لكن تأكدت من جهة اخرى مشاركة احدى المجموعات المحسوبة على المعارضة في اعادة بعض القرى الى قوات النظام، ومنها قرية حارم. وكان لافتاً أن مواقع التواصل ضجّت بنقاش حول ما اذا كان التعرض لقرى علوية يعتبر «طائفياً» فبماذا يوصف قصف الخالدية في حمص والقابون وداريّا؟ في أي حال يبقى من ذلك الهجوم أنه أثبت لجماعة النظام أن منطقته لن تبقى في مأمن.

ومنذ ثبت أن مسار الثورة السورية سيطول ولن يشبه أي ثورة عربية اخرى ارتسمت صورة قاسية لموازين القوى، فالنظام ليس العدو الأوحد للشعب بل ان العدو الرقم واحد هو الفقر، الذي كان من أدوات تركيز السلطة. لذلك كان المال، ولا يزال، اداة الاختراقات سواء من جانب النظام للمعارضة أو من جانب الجهات الخارجية لاستمالتها. في المقابل هناك اختراقات للنظام لكنها مختلفة بنوعية أشخاصها ودوافعهم. وفي البدايات انقسم أصحاب المصالح والشركات، وجميعهم من السنّة، بين قلائل يساندون النظام وقلائل يساعدون المعارضة وغالبية تحاول ارضاء الطرفين، ثم راحت مساهمات هؤلاء تنكمش تدريجاً بسبب تعطّل أعمالهم واضطرارهم الى الهجرة، وبقيت شلّة محدودة تحاول الاستفادة من اقتصاد الحرب خصوصاً أن النظام ينفق يومياً 70 الى 100 مليون دولار حسب العمليات (مصادر عدة تفيد بأنه يحتاج شهرياً الى 3 – 3,5 مليار تؤمن ايران معظمها ويساهم العراق بـ 500 مليون وينفق الباقي من احتياطيّه) ثم أن الأموال تتدفق بعشوائية على الجانب الآخر من دول عديدة يسرّ بعض عملائها بأن مبالغ كثيرة تبخّرت أو أدّت الى ظهور أثرياء حرب أو أسيء استخدامها بسبب فوضى الإغاثة والتسليح فضلاً عن صعوبات الإشراف المباشر على توزيع المساعدات على مستحقّيها.

السابق
بطولات الشاطر الكلامية
التالي
نازح سوري يطعن فتى لبناني