أحمد بيضون يفكّك النظام اللبناني

أحمد بيضون

ينعى أحمد بيضون في كتابه الأخير لبنان، الذي لم يتوقف نظامه السياسي عن تعميق قاعاته الجهنّمية: نظام “خلود الطوائف”، وتفوق الطائفية على كل من الميثاق والدستور، وعراقتها في تسهيل بناء علاقات تبعية، رسمية و”أهلية”، واستنادها الى قاعدة ضاربة الجذور من أعراف وتقاليد إجتماعية، وتأرجح نظامها بين “حرية مطلقة” وتشريعات طائفية تحدّ منها أو تبطل كل مفاعيلها… يختم كل هذا بتحميل اللبنانيين أنفسهم، فضلا عن سياسييهم مسؤولية الفشل في النهوض من هذا الدرك… أوصاف وملامح هذا النظام تطول. ولو أمكن تنظيم الأوصاف أو الخيوط المجدولة بضفائر رقيقة، المستحكمة بلبنان… لو أمكن ذلك، لوقفنا أمام جملة من الكتاب تضع الخطوط العريضة على هذه الملامح: “الدولة ضعيفة حيث يجب ان تكون قوية، وقوية حيث يجب ان تكون ضعيفة”.
فضلُ هذا الكتاب ان قراءته تحثّ على فتح الباب واسعاً أمام تساؤلات ملحّة، تكاد تجد بعضها في متن الكتاب: من نوع ان اتفاق الطائف (1990)الذي وقّعته القوى المتحاربة منذ ثمانية عشر عاماً، زاد من الطائفية السياسية استعاراً. وهو إستعار يحفزّ على النظر الى هذا الاتفاق، الى محصلته التاريخية، بجوانبه المطبّقة والأخرى المنسية، وصولاً إستعادة الظاهرة الطائفية منذ نشأة لبنان:
خلال العقود الثمانية التي مرّ بها لبنان، بل في أحداث ما قبلها، عندما لم يكن لبنان سوى “جبل لبنان”، إمارة جبلية تتصارع عليها الدولة العلية العثمانية والقوى الغربية الصاعدة، هل كان لهذا النظام خط بياني، ترتفع به الحمى أو تنخفض، أو تضعف أو تختفت؟
هذا الخط الطويل، لو اخذناه بأبعد ما وقع عليه زمنه، كيف كان مساره؟ يدور حول نفسه؟ بحركة مكررة، تشبه رقصة الدراويش، أم يذهب نحو المزيد منه؟ وما هي الشروط هذا الذهاب؟ أي، متى ازدهرت الطوائف ومتى نامت؟ ولا نسأل متى “ماتت”…
أو: هل يمكن اعتبار يقظة الطائفية أو غفلتها نتيجة معطيات بنيوية صلبة؟ خارجية تلتحم بالمحلية؟ ذات علاقة بالوعي بها أو بالمعتقد الذي يزيّنها؟ بتيارات ومناخات وأنواع ثقافات؟ بالـ”مصلحة” وحسب؟ وأية مصلحة؟ أم مجرد تعب، بين كل جولة وأخرى، تتبعه هدنة طويلة، نسبياً، عقود وأنصاف السنوات، تستعيد أنفاسها لتكون متجددة، ديناميكية، تلتقط فرصها، تدخل الى المسرح بأفعال تقلب معادلات وموازين، فتفرض جولة صراع مديدة، دائماً طائفية، ساخنة وباردة؟ ولكن بأبطال مختلفين، أو إنقسامات جديدة، على طبقات من الإنقسامات القديمة، ولغة تضاف الى معجم التاريخ الطائفي غير المشرف؟
ما يطرح معنى أهلية النظام السياسي اللبناني، ناهيك عن شرعيته، كما في هذه الكلمات لبيضون، من ان الطائفية “لا تصلح لحكم البلاد لأنها وصلت الى هذا المنتهى من الجبروت بالذات”.
هل تعني كلمة “لا يصلح” فشله؟ أحسب ان جميع السياسيين واللاعبين الكبار والمتوسطين في الشأن السياسي لا يرون الموضوع من زاويتنا هذه. فعلى الرغم من “تعذر التوافق بين الاطراف الطائفية”، ومن صيحاتهم اليومية ضد النظام الطائفي الذي يبغضون، والدولة التي يرْثون…. هم يرون انهم نجحوا، وليسوا على الإطلاق من الفاشلين. أن يدمّروا حياة البلاد ودورتها الاقتصادية والإنسانية واليومية، أن يمتنعوا عن التجديد “الشرعي” عبر الانتخابات…. الخ، فهذه ليست دلائل “فشل” بنظرهم، إنما هي قوة بإمساك زمام الامور، “إستيعاب الصدمات”، بوراثة جماهير التطرف، بتبديل اللسان في المنعطفات… كلها مواهب يتمتع بها من أراد السلطة من بيننا، وهي مواهب تحييها عادة أقوى الإرادات.
نقطة أخرى يثيرها كتاب أحمد بيضون: “تطور” النظام السياسي اللبناني، ليس بالضرورة بمعنى “التقدم” إنما بمعنى تأريخه بالزمن الذي يعبره:
هل “تطوَّر” هذا النظام يفضي بالضرورة الى بلوغه مبلغ الأصولية الدينية، المسيحية أو الإسلامية؟ قد تكشف الإجابة على هذا التساؤل جانباً دقيقاً من سمة الطوائف؛ من ان حضورها السياسي لا يتحقق إلا بدعم خارجي. أي عودة الى التبعية التاريخية، التي يصف بيضون ديناميكيتها الخاصة العابرة للتاريخ اللبناني. الإجابة المقنعة على هذا السؤال غير متوفرة، اذ تفترض ان لا يكون هناك ثورة اسلامية في ايران، ولا صعود الاسلامية السنية في الدول العربية، وما نجم عن تجربة الإثنتين، على تفاوت نجاحهما، من إختبارات، قاسية ورجْراجة، حتى الآن على الأقل.
إذن لو لم ينْوجد الاثنان في التاريخ، الإيراني الشيعي والعربي السني، وكل ما يفيض عنهما من ملحقات ومزايدات وتعبئات… فعلى أي وجه ستكون الطائفية اللبنانية، ساعتئذ؟ ربما هو سؤال لا يؤكد غير المعروف: لبنان بلد حساس، عطوب، “بوتقة” تندلق بداخلها كل الحِمَم الممكنة.
ثمة شبه جزائري مع لبنان: كأن مجهولين يحكمونه، رغم الحضور الطاغي للرئيس بوتفليقة؛ لا وجه ولا حزب ولا رمز ولا شخصية كاريزماتية يلخّص هذا الحكم؛ فوجوهه من غير قرارات، وقراراته من غير وجوه…
خلف شيء اسمه “النظام”، عش الأفاعي هذا، من يحكم لبنان الآن؟ “حزب الله”؟ السياسيون بمختلف اطيافهم؟ متوافقون أو متصارعون؟ يوحّدهم شغف بالسلطة، هو قاسمهم المشترك مع المجتمع، “محكوميهم”؟
وقّع أحمد بيضون آخر صفحات كتابه بين أيلول وأول تشرين الأول 2011؛ وكان عنوان النص الذي سبقه في شباط 2011، أي مباشرة بعد إطاحة الثورتين المصرية والسورية برأسي نظام بلديهما. يعني ان كتاب بيضون لم يرافق التطورات اللاحقة لهاتين الثورتين، فضلا عن مجريات الثورة السورية نفسها. ولكن كتابه كله يعينك على متابعة التساؤلات على المنوال الذي اعتمده. فبالإتجاه نفسه:
“التدخل” العسكري لـ”حزب الله” في المقاتلة الى جانب قوات الأسد، هل كان حقاً كما يصفه أمينه العام ومعه رجالاته وجهازه الاعلامي، من ان الحزب كان “مضطراً” لذلك؟ مضطرا للدفاع عن نظام هو المجال الحيوي لنظام آخر يتبع حزب الله تعليماته؟
ولكن مهلاً: يجب ان نصدق الحزب عندما يقول ذلك، إنما لأسباب مختلفة عن تلك التي يتقدم بها خطباؤه ومحبّوه. والتي يبدو الحزب، من خلال كلماته، وكأنه يستشعر ذنباً ارتكبه، يطلب عبرها الغفران، لأن من بعده هناء بهناء: “الحفاظ على المقاومة”. القصة ليست انه كان مضطرا، إنما “تدخل” لأن ذلك من صميم تركيبته وتأسيسه وتمويله وأجندته…
هل نتصور ان لا يكون متدخلاً؟ أين تذهب ساعتئذ كل تلك القوة المشحونة المقهورة من قلة التعبير عن نفسها؟ حزب الله لن يكون حزب الله لو لم يفعل، وكذلك النظام السياسي لن يكون طائفيا لو لم يقفز كل مرة حيّ يُرزق من بين الأنقاض، وكذلك السنية السياسية لن تتلقّف الخطاب والرموز السلفيين وتعيد تأهيلهم لينخرطوا في صلب النظام…. الخ.
من هنا استحالة ان تحصل ثورة في لبنان، على الرغم من “الحرية”؛ كلنا رافق، مع بيضون، تظاهرات إسقاط النظام اللبناني، بعيد المفاجأتين التونسية والمصرية، وبرغبة جامحة في المحاكاة، فتظاهر الآلاف من بيننا. وبعد خفوتهم السريع، أمعن لبنان في سبر أغوار التطييف والتمذهب، على مستويي “نخبه” الحاكمة وجماهيريه، الوفية دائماً؛ ولا تعرف بعد حين من يغذي الآخر، لشدة الحمى؛ تلك هي مساهمة لبنان الأساسية في هذه الثورات: انه تطيّف وتمذهب، بدل أن يثور. وهذا استعصاء يتجاوز كل الإرادات، الخيّرة منها والشريرة. وما يضاعف وطأته، ويغذّي محبي الطائفية، هو مآل هذه الثورات نفسها؛ حيث كشفت، في مراحلها الانتقالية، بدوراتها المتداخلة والعشوائية، انها تنحو نحو “التلبْنن”: إنهيار الدولة، فوضى، إحتراب أهلي، عسْكرة، تبعية للخارج؛ كل مركبات النظام اللبناني، مع اختلاف بسيط في المقادير.
عما تكشف تلك الرحلة المعاكسة للتاريخ؟ ذاك “التلبنن” الذي تسير على خطاه المراحل الإنتقالية للثورات؟ عما تكشف لبنانياً.. عربياً؟
ثمة شيء أخير، لم يكن لكتاب بيضون أن يتناوله، وإن تضمّن إرهاصاته: وقوامه ان الحدود القائمة بين لبنان وسوريا قد فُتحت على مصراعيها، جيئة وذهابا، مع النظام وضده، مقاتلين ونازحين وعائدين ومهرّبين، فضلاً عن التداخل الشديد، بعد “التلازم” العتيد، بين أجندات البلدين ومشاريعهما ورؤاهما وشعاراتهما، وبالدور الذي بات يلعبه الواحد تجاه الآخر، وبالعكس. وبما ان الفلسطينيين، ببشرهم وقضيتهم، يشكلون مادة دسمة لمفاعيل هذا التداخل، في لبنان كما في سوريا، فهذا يعني باننا نتجه نحو مستوى جديد من التحليل: مستوى الأراضي المفتوحة على بعضها البعض وإطاره لبنان وسوريا وفلسطين وكل تشعباتهم. ما يدفع الى توسيع النظر والتحليل في إطار هذه الدول وشعوبها.

السابق
القرضاوي: أخرجوا إلى رابعة العدوية ولا طاعة “للانقلاب”
التالي
“على كل امرأة مسلمة تلد ذكراً أن تسمّيه مرسي …”