أبعد من فانديتا مصر

الغالبية الشعبية الساحقة، اللااسلامية، التي خرجت واعتصمت في ميادين مصر ، موجودة في كل مكان عربي ومسلم. يمكن العثور عليها في تونس وليبيا وسوريا واليمن ودول الخليج العربي وايران وحتى تركيا، وان اختلف سلوكها وبرنامجها. هي ليست ثورية او انقلابية او حتى اقصائية. تقر بوجود الاسلام السياسي، لكنها لا تقبل بجدول اعماله المتبس، ولا تحتمل الخطاب السلفي الذي خرج من عباءة ذلك الاسلام، وقرر فجأة العودة من رحلة التكفير والهجرة الى رحلة السلطة والوصاية، من دون مراجعة او محاسبة.

مجلة الايكونوميست البريطانية رأت في مقال نشرته الاسبوع الماضي، ان التظاهرات الشعبية الحاشدة باتت تمثل ظاهرة عالمية، يمكن اختزالها بقرار الطبقة الوسطى في مختلف دول العالم بالخروج الى الشوارع بعد فترة من السكون والترقب ، واقامت صلة بين تظاهرات الربيع العربي وبين تظاهرات تركيا والبرازيل واليونان وبلغاريا وسواها من البلدان التي تشهد عواصمها ومدنها مسيرات شبه يومية.. يغطي بعض المشاركين فيها وجوههم بقناع "فانديتا" الشهير المستوحى من رواية مصورة تحولت الى فيلم سينمائي عن الحركة الفوضوية التي تطمح الى اسقاط الحكومات في مختلف انحاء العالم.. وهو القناع الذي صار شعارا لمجموعة "انونيموس" لقراصنة الانترنت.

الربيع العربي جزء من حركة عالمية، يختزل، حسب منطق المجلة ، بالطبقة الوسطى العربية، وان كان يتخطى المطلب الاقتصادي الذي اخرج الاتراك والبرازيليين والبلغار الى الشوارع، ويعبر عن الاعتراض على كل شيء في السياسة والاقتصاد والاجتماع، ويقترب من العدمية، ما يتسبب باطالة امد المرحلة الانتقالية التي يعيشها العرب، وانسداد افق التغيير السلمي يوما بعد يوم، كما هي حال مصر الان التي تقف على حافة الحرب الاهلية، وكما هي حال ليبيا وسوريا اللتين تغرقان في مثل هذه الحرب.

لكن ما سقط من هذه القراءة المبتسرة للربيع العربي، التي سبق ان قارنته بانتفاضات دول اوروبا الشرقية في نهايات القرن الماضي واقامت صلة خيالية بين الاتحاد السوفياتي وبين الانظمة العربية الدكتاتورية ،هو ان الشعوب العربية تخوض الان ما يمكن اعتباره معركة الهوية السياسية، وتسعى الى اعادة بناء دولها ومؤسساتها استنادا الى نتائج تلك المعركة. وهي في ذلك تقاتل طغيانا امنيا زائلا ينتمي الى الماضي، وتكافح في الوقت نفسه ضد استبداد ديني ناهض، لم يواجهه الاوروبيون مع كنائسهم التي كانت مغلقة في الحقبة الشيوعية ولا تزال.

منذ البداية كان الربيع العربي مشروعا متقدما، لا يندرج في اي سياق عالمي، نظرا لتلك الخصوصية الاسلامية التي تشكل تحديا عميقا في مصر كما في تونس وليبيا وسوريا وغيرها.. وتفوق قدرة المجتمعات العربية على استيعاب ذلك التحول الذي اجرته حركات الاسلام السياسي، حيث تم الانتقال بسرعة من السجون الى مؤسسات الحكم، والتسليم بالدولة المدنية ، بينما ظهرت على هوامش تلك الحركات تنظيمات وشخصيات تنادي بالخلافة.. وتلوح الان بالعودة الى العنف، اذا ما حرمت من فرصة البقاء في السلطة، حسب ما تنص عليه قواعد اللعبة السياسية.

التجربة المصرية التي تشهد هذه الايام، بل هذه اللحظات، منعطفات حاسمة، قدمت في الساعات الماضية نموذجا لما سيكون عليه الحال في بقية بلدان الربيع العربي، بل وربما العالم العربي كله: الغالبية الشعبية الساحقة تخرج في تظاهرات مليونية لكي تسترد من الاسلام السياسي جدول الاعمال الوطني، لكنها تستدعي المؤسسة العسكرية، وتستنفر الاسلاميين، وتدفع البلاد نحو الاحتراب الاهلي. لكنها لا يمكن ان تلام او تتهم الخطأ، ليس فقط لانها غالبية ساحقة بل اساسا، صاحبة رؤيا محددة، لم تتبلور في برنامج او خطاب او رمز، لكنها ليست عصية على الفهم، الا لمن يعتبر ان المصريين والعرب غير جاهزين وغير مؤهلين لمعانقة ذلك الحلم.

العبر الاتية من القاهرة لا تتوقف.. ومعها الآمال بان الربيع العربي لم يكن موسما عابرا.

السابق
السنّة يعانون من سلاح حزب الله
التالي
ابادي: دبلوماسيينا الـ4 الذين إختطفوا في لبنان لا يزالون في إسرائيل