لبنان في الحرب على سوريا

ليس من لبناني واحد يستطيع الادّعاء أنه «خارج» الحرب الدائرة رحاها في سوريا منذ عامين وأكثر، وأن مسار حياته والتفكير بمستقبل أسرته لا يتصل ـ بالاضطرار وليس بالرغبة ـ بتطورات هذه الحرب التي باتت «دولية» تتصارع فيها الإرادات والمصالح من أدنى الأرض إلى أقصاها.
بل ليس من مواطن عربي، في المشرق كما في المغرب، يمكنه الادّعاء أنه لا يعيش خوفاً عارماً من ضياع سوريا في الفتنة وسقوط دولتها وتمزق كيانها السياسي إلى «إمارات» طائفية وعنصرية، هذا إذا ما استبعدنا الصوملة التي حذر منها الموفد العربي ـ الأممي الأخضر الإبراهيمي.
ومنذ أن هيمنت قطر بمالها على جامعة الدول العربية واسترهنتها فارضة عليها أن تكون معظم اجتماعاتها فيها وبدعوة منها، وأن تكون قراراتها هي الترجمة العملية لضرورات انتصار المعارضات المختلفة التي تتعدد إطاراتها وهيئاتها من دون التوصل إلى توحيدها إلا بالوعد أنها ستكون وريثة النظام وأن قياداتها المختلفة هي سوف تحكم سوريا المستقبل.
بالمقابل فإن السعودية التي أزعجها هذا التنطح القطري لدور قيادة التغيير في سوريا، امتداداً لما تدّعيه من نجاح في إطلاق عاصفة الربيع العربي وتمكين الإخوان المسلمين من الوصول إلى سدة السلطة في أكثر من بلد عربي، قد اندفعت ـ بثقلها العربي والدولي ـ إلى أبعد مما تطمح الدوحة من إنجازه.
بل إن أكثر من مئة دولة في العالم قد تلاقت على نصرة معارضة بل معارضات عاجزة عن التوحد في جبهة وعن إنجاز برنامج مشترك للحكم بعد إسقاط النظام القائم الذي فقد الكثير من عناصر قوته لكنه ما يزال قادراً على البقاء ولو في دولة تستنزف وحدتها الوطنية يومياً، وهي أهم عناصر قوتها وشرعية دورها الذي كان استثنائياً، عربياً ودولياً، إلى ما قبل سنتي الحرب الكونية فيها وعليها.
وبالعودة إلى لبنان فإن قواه السياسية، على اختلاف توجهاتها، كانت وما تزال أطرافاً فاعلة في الحرب على سوريا وعليها… ولا يستطيع أي حزب أو قيادي سياسي أو مرجع ديني أن يدّعي أنه «خارج» هذه الحرب، أو أنه «محايد» فيها.
على هذا فمن الدجل السياسي أو المكابرة في الاعتراف بالواقع طالما أن نتائج هذه الحرب غير محسومة، الادّعاء أن ثمة من هو خارجها أو غير معني بتطوراتها، لا سيما بعدما باتت الأرض السورية مفتوحة أمام التنظيمات حاملة الشعار الإسلامي الوافدة من أربع رياح الكون والتي تتباهى بممارسة أشنع عمليات القتل الجماعي ضد من يتشبث في موقفه من النظام، والتي حولت الاعتراض السياسي إلى حرب طائفية ـ مذهبية مكشوفة.
بالتالي فإن لبنان لم يدخل مسرح الحرب الأهلية ـ الدولية المستعرة في سوريا مع إعلان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله ـ رسمياً ـ مشاركة الحزب في معركة القصير على الحدود اللبنانية ـ السورية.
ولا يحتاج الوضع إلى خبراء استراتيجيين، عسكريين ومدنيين، للتثبت من أن جبهة القصير هي جبهة لبنانية بقدر ما هي جبهة سورية، وخط تماس سياسي ـ اقتصادي ـ اجتماعي يمتد بطول الحدود اللبنانية السورية بكل تلاوينها المذهبية.
وبقدر ما هي دمشق «عاصمة» البقاع الغربي (والأوسط) بالجامعات والمستشفيات والصيدليات بالدواء الرخيص فيها، فإن حمص هي «عاصمة» البقاع الشمالي، وأبناؤه يكادون يعرفونها أكثر من معرفتهم ببيروت ويتوجهون إليها للتجارة كما يرسلون أولادهم للدراسة فيها وتربطهم بأهلها (الأصليين) وشائج الصداقة والمصاهرة.
إن شبكة العلاقات الإنسانية بين أبناء هاتين المنطقتين المتجاورتين إلى حد التداخل اقتصادياً واجتماعياً أوسع بكثير مما يفترض البعيدون بالعاطفة والمصالح عنها.. ولم يؤثر الاختلاف في الانتماءات الطائفية يوماً في متانة العلاقات بين المجتمعين المتداخلين بالمصالح والروابط العائلية والشخصية.
الحرب واحدة على هذه البيئة التي لا تفصل «الحدود الرسمية» بين أهلها على الجانبين. والمقاتلون الوافدون بشعارات القتل بل إبادة من يرفض الانخراط في الفتنة يعلنون جهاراً نهاراً أنهم سيكملون «رسالتهم» باستئصال كل مخالفيهم في المعتقد أو الرأي، في لبنان بعد سوريا، وقد جرّبوا ذلك في العراق، ولكنهم الآن أغنى مالاً وأعظم سلاحاً وقد جاءوا من بلاد الشرق البعيدة والغرب الذي ساعدهم على الاندفاع إلى «الجهاد» بعيداً عنه وعن شعوبه المتحضرة التي لا تجد مانعاً من رعاية التعصب طالما أنه موجه ضد أبناء الدين الواحد في البلاد ذات الغلبة الإسلامية.
إنها معركة دفاع عن النفس قبل أن تكون دعماً للنظام في سوريا.
ثم إن «حزب الله» قد انخرط فيها متأخراً جداً عن التنظيمات ذات الشعار الأصولي، والتي أوفدت وما تزال توفد مجاميع من الشباب «للجهاد» ضد «الكفرة» في سوريا واستعادتها إلى فيء الإيمان.
فألسنة نيران الصراع في سوريا قد لفحت لبنان منذ تحويل الاعتراض السياسي إلى «حرب طائفية».
وقد تكون هذه المعركة استباقية في توقيتها منعاً لتمددها، ولكنها متوقعة، وهي حرب مفروضة لا مفر من مواجهتها قبل أن يتوسع مسرحها لإدخال المنطقة جميعاً في «فتنة كبرى» لا تبقي ولا تذر.
ولم تكن صواريخ الأمس على الضاحية «التحرش» الأول بقصد تفجير الفتنة، ولن تكون الأخيرة… بشهادة ما جرى ويجري في أنحاء أخرى من لبنان دهمتها الحرب السورية فأحرقتها أو تكاد، خدمة لأهداف تتجاوز طبيعة النظام في سوريا، ليس من بينها قطعاً تعزيز الوحدة الوطنية ومواجهة أعداء الأمة بعنوان إسرائيل التي لا يتذكرها هؤلاء «المجاهدون» في سياق نصرتهم لإخوتهم في الدين من أبناء شعب فلسطين.
  

السابق
وضع الحجر الاساس للقصر البلدي في شحيم
التالي
صواريخ عيتات: الضاحية مقابل القصير؟