المرأة والكيس

لستُ سائحاً نمسوياً ليستفزّني احتقار قانون السير. أو مشهد شرطي يسحب متظاهراً من شعره. أو رؤية رجال الأمن ينهالون بالهراوات على جسد صبيّة صدّقت أكاذيب الربيع. أو مشهد شبان يحطمون الواجهات الزجاجية. أو انقطاع التيار الكهربائي في العواصم. أو سرقة المتاحف والآثار. أو ارتفاع نسبة المخدرات في العشوائيات. وارتفاع نسبة الأمّية في الأرياف وعلى الشاشات.

لستُ سائحاً نمسوياً وافداً من بلاد السيمفونيات والنوافير والحمام. أنا ابن شرعي لهذا الشرق الأوسط الرهيب. ذهبتُ إلى مدارسه وتعلمتُ في كتبه الملتبسة. تعلمتُ تمزّقاته وكراهياته. رأيتُ الخناجر مُخبّأة في كتاب التاريخ، وعاينتُ ظلم الحاكم وفساد معارضيه.

وشاءت المهنة أن أرى مدافع عمياء تنهال على البيوت. وطائرات تسكب الموت على المتجمّعين تحت السطوح. وقنّاصة يطاردون المذعورين الهاربين. ورأيتُ جثثاً تسبح في دمها. ورأيتُ قادة يتسلقون الجثث ليُبرموا سلام اقتسام ما تبقّى من الوطن.

وشاءت المهنة ايضاً أن أحفر في ذاكرة قساة. وأن أسمع تعابير لا ترحم. «قرَّروا إعدامه فوقّعت». و «نعم أنا أرسلتُ الرجل وانفجَر بهم». و «لن أخفي عليك أنني أعددتُ العبوّة التي قَتَلَت…». والقتيل صاحب القرار وحامل الأختام. وأدى اغتياله إلى تغيير مجرى الرياح. و «أرسلوا سيارات ملغومة فرددتُّ لهم التحية بمثلها». و «ليس سراً أنه حاول اغتيالي وحاولتُ اغتياله». تخيّلتُ أن ما شاهدتُ وسمعت يحصّنني في مواجهة الروايات المؤلمة لكنني كنتُ واهماً. كان مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان يحدّثني عن الحاضر والمستقبل حين نكأتُ ذاكرته. سألتُه عن اللحظة الأقسى في حياته الحافلة، فأجاب: «هناك مشهد لا أنساه. قمع صدام حسين انتفاضة الأكراد في 1991 وطاردت الطائرات جموع النازحين. ذهبتُ لتفقُّد أحد المواقع وسط الغارات. كان المشهد مريعاً. لاحظتُ امرأةً تحمل كيساً من النايلون، وتبكي وتلطم بحرقة غير عادية. سألتُ ماذا تحمل، فقالوا ما تبقى من الأشلاء الطازجة لأربعة من أبنائها، قُتلوا بقذيفة طائرة. اقتربتُ لأواسيها فخانني تماسكي وأطلَّ الدّمع من عيني. انتهرتني قائلة: أنت مسعود بارزاني وتبكي. لا أقبلُها منك. لا يزال لديّ ولدان أقدّمهما لك لتتابع طريقك وننال حقوقنا».

بعد ما يزيد على عقدين جاهد بارزاني لاعتقال دموعه. قال: «لا يعرف الحرب إلاّ من جرّبها. لهذا أحاول تجنيب الجيل الجديد من الأكراد تجارب الجيل السابق. لهذا ندعو الى الاعتراف بالآخر وحقوقه لنتعايش ونتعاون وندفن الماضي إلى غير رجعة». استوْلت صورة المرأة والكيس على مشاعري. أهوال بعض الصُّوَر تفوق أهوال حروب كبرى. حرَفْتُ الحديث في اتجاه آخر ثم غادرتُ مقر رئاسة إقليم كردستان.

لا بد قبل النوم من استطلاع أحوال المنطقة. كانت شاشة «العربية» ترشح دماً. انتحاري اقتحم تجمّعاً عراقياً وكانت الحصيلة خمسة وعشرين قتيلاً وعشرات الجرحى. ثم بثّت شريطاً عن اليوميات السورية. جثث متجاورة ومتفاوتة الأحجام. جثث مرتّبة تذكّر بصفوف أطفال المدارس. خشيتُ أن يذهب صحافي ذات يوم ويسمع رواية تشبه رواية المرأة والكيس حدثَتْ في حمص أو حلب أو الصنمين.

سامح الله مسعود بارزاني، فقد أفسد جولتي. مررتُ في بيروت في 13 نيسان (ابريل). وجدتُ صُحُفَها تكتب عن الرصاصة الأولى في مثل هذا اليوم من عام 1975. ثمة امرأة لبنانية «ضاع» ابنها في الحرب. تريد جثته لتواريها بالدموع والمناديل. عاودتني صورة المرأة والكيس. لم يتعلّم اللبنانيون من حروبهم، ولم يتعلّم الآخرون. كان قرار اغتيال لبنان رهيباً. قتل مختبر التعايش في المنطقة، قتل معهد التدريبات. تلك الرصاصات التي انطلقت في بيروت افتتحت دورة الانهيارات المفتوحة.

السابق
التحدي ـ الفرصة
التالي
الكيماوي السوري عنوان الحرب