السفير: الجيش والقضاء والاقتصاد والانتخابات في دائرة الاستهداف

لا يتيح الاستغراق في التفاصيل اليومية والتعامل مع الأحداث بـ"القطعة"، مقاربة الواقع اللبناني وفق رؤية بانورامية شاملة. لكن الرجوع خطوة الى الوراء ومن ثم الاطلالة على المشهد العام من كل جوانبه يُبينان بوضوح ان الصورة الاجمالية للدولة في لبنان قاتمة للغاية، بل غارقة في السوداوية. وأسوأ ما في هذا الوضع ان معظم الموبقات تتم باسم الحرص على الدولة والرغبة في العبور اليها.

صحيح ان الانهيار الكبير لم يحصل بعد، لان هناك قرارا خارجيا بإبقاء لبنان مترنحا في منطقة وسطى بين اللااستقرار واللاانفجار، لكن الصحيح ايضا ان حالة التحلل والاهتراء التي تملأ الوقت الضائع، تقود الدولة والوطن تدريجا الى نوع من "الموت السريري" الذي لا يُبقي من الحياة سوى ما تسمح به أجهزة التنفس الاصطناعي.

من أين نبدأ، وكل شيء من حولنا، يشي بتآكل الدولة وبالتالي افتقار الناس الى المرجعية الضامنة:

ـ مشهد أول: استهداف الجيش
ما حصل في عرسال يتجاوز بطبيعة الحال حدود الحادث الامني العادي. نحن امام استهداف مبرمج للمؤسسة العسكرية، له ما قبله وقد يكون له ما بعده. وإذا كان الجيش يشكل في كل مكان رمزا للسيادة والاستقلال، فإنه في لبنان أكثر من ذلك. هو الضمانة الوحيدة المتبقية لآخر مظاهر الوحدة الوطنية والسلم الاهلي في منطقة ملتهبة تخضع لعملية إعادة ضم وفرز. وهو آخر تجليات دولة لم يعد يدل على وجودها سوى البزة المرقطة.

وبدلا من ان يكون دم بيار بشعلاني وابراهيم زهرمان الذي سال في عرسال حافزا لاحتضان الجيش من دون شروط، إذا بالبعض لا يتردد في محاكمة الضحية، وإذا بالكمين الامني يكتمل بكمين سياسي استهدفت نيرانه نيات الجيش ودوافعه وصولا الى اتهامه بالتواطؤ مع قوة حزبية، مع ما يحمله هذا الاتهام من تحريض مذهبي. كما طال الرصاص السياسي الطائش رأس المؤسسة العسكرية، بما يمثله من رمزية وهوية، في إثارة طائفية يراد لها ان تطلق العنان للغرائز المشحونة.
الحصيلة الاجمالية: شهيدان للجيش وعدد من الجرحى.. ومحاولة لهدم أحد أعمدة الدولة.

ـ مشهد ثان: القضاء في مرمى التصويب والترهيب
لن ندخل في تفاصيل الخلاف بين النائب بطرس حرب والنائب العام التمييزي القاضي حاتم ماضي. ما يعنينا ان حرب، في معرض تصفية حساباته مع ماضي، أساء الى صورة القضاء ككل وعمل فيها تهشيما، من دون ان يميز بين شخص المدعي العام والموقع الذي يشغله.
والمستغرب ان نائب البترون، العريق في تجربته البرلمانية والحقوقية، والمعروف عادة برصانته، حتى في مواجهة خصومه، غادر هذه المرة ذاته وتراثه، وذهب بعيدا في هجوم عنيف على ماضي، افتقر الى الحد الأدنى من اللباقات وقواعد التخاطب مع شخصية تشغل واحدا من أرفع المراكز في المؤسسة القضائية، وترمز الى كرامتها.

ربما يكون ماضي قد أخطأ في مكان ما، وربما لا. لكن، في كل الحالات من غير الجائز ان يجري تصحيح الخطـأ بارتكاب خطيئة، وبالتالي من غير الجائز ان يصبح طلب رفع الحصانة عن نائب، موازيا لرفع الحصانة عن القضاء. وإذا كان الجسم القضائي يعاني نقاط ضعف ومكامن خلل تتطلب المعالجة، فان ذلك لا يلغي حقيقة انه يظل الخيار الوحيد لإحقاق الحق وبلوغ العدالة.

ـ مشهد ثالث: الانتخابات النيابية في المجهول
توحي الخلافات المستحكمة حتى الآن حول قانون الانتخاب ان "منسوب" احتمال تأجيل الانتخابات النيابية يرتفع شيئا فشيئا مع مرور الوقت. والتأجيل، إذا حصل، يعني ان البقية الباقية من مظاهر الديموقراطية اللبنانية – الهزيلة أصلا – قد تلاشت، وان لعبة تداول السلطة، ولو شكليا، ستتعطل حتى إشعار آخر، مع ما يرتبه ذلك من تمديد للمجلس النيابي، ربما ينسحب لاحقا على سلطات دستورية أخرى.

وأغلب الظن، ان معظم الأطراف الداخلية ستجد مصلحة في إرجاء هذا الاستحقاق ما لم يشعر كل منها بان القانون المفترض يتلاءم مع قياساته، علما بأن هناك من لا يزال ينتظر سقوط النظام السوري لتعديل موازين القوى في الداخل ورسم خريطة التقسيمات الانتخابية بقلم المنتصر، متجاهلا ان صقور المعارضة السورية باتوا من حمائم التفاوض مع النظام.

– مشهد رابع: مشاريع التقسيمات الانتخابية
تتبارى المشاريع الانتخابية المتداولة في ضرب مفهوم الدولة الواحدة وفلسفة اتفاق الطائف والدستور. لا همّ، ما دامت دويلات الطوائف والمذاهب أهم من الدولة. واذا كان هناك من يبشر بـ"الدوائر الصافية" التي تستند الى الفرز على الهوية، فان البعض اختار في المقابل أسوأ توقيت ليدعو الى فتح باب التعديل الدستوري، تهربا من استحقاق دفع فاتورة المناصفة الحقيقية والشراكة الفعلية، مع الاشارة الى ان هذا الباب، إذا فُتح، يمكن ان يقود الى ممرات وسراديب لا نهاية لها.

– مشهد خامس: الاقتصاد يدفع ثمن "الثأر السياسي"
بات واضحا ان فريق " 14 آذار"، يتخذ من الاقتصاد "رهينة" في معركته مع فريق "8 آذار" وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي. وليس خافيا ان المعارضة ساهمت في الدفع نحو ضرب نوع من الحصار السياحي على لبنان، واستفادت من علاقتها المميزة مع الهيئات الاقتصادية للضغط على الحكومة وتحميلها مسؤولية واقع اقتصادي تراكمي ومتوارث.
ولم يتوان بعض رموز "تيار المستقبل" عن توجيه اللوم والانتقاد الى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لإقدامه على ضخ حوالى 2000 مليار ليرة لبنانية في الاسواق، إضافة الى محاولة التشكيك في فعالية الخطوات والاجراءات التي اتخذها لحماية الاستقرار النقدي والقطاع المصرفي.

مرة أخرى، لا يجد البعض حرجا في إطلاق النار على جسد الاقتصاد حتى يصيب الحكومة. انه شبق الصراع على السلطة.. حتى الانتحار.
ويبقى السؤال: من سيوقف عروض هذا الفيلم الطويل، وإلى متى سيكتفي اللبنانيون بالتفرج على دولتهم وهي تتلاشى رويدا رويدا؟

السابق
شهيب: المشكلة في التحالفات
التالي
الاخبار: اقتراح “المستقبل”: 44 نائباً للمسيحيين