الشياح وعين الرمانة

الشياح عين الرمانة

الشياح لا تزال للشيعة، وعين الرمانة للمسيحيين. وخط التماس الذي فصل بين المنطقتين زمن الحرب لا يزال موجوداً وإن لم يكن ذلك بالمفهوم العسكري. تحافظ المنطقتان على طابعهما الديني والسياسي. يكفي رصد الأزقة المواجهة لبعضها البعض، لتأكيد ذلك. صليب القوات وصور سمير جعجع تقف بالمرصاد بوجه صور موسى الصدر ونبيه بري منعاً لأي التباس في هوية المنطقة. بعيداً عن الأسباب التي أدت إلى ذلك، منطقة عين الرمانة لم تعد بمنأى عن “التمدد الشيعي”. يقول أحد الكتاب الذي يوصف بأنه “شيعي معارض”: “هربت من المناطق ذات التواجد الشيعي واخترت هذه المنطقة لاستأجر شقةً فيها، لأجد أن أسماء القاطنين على الانترفون كلها “محمودات”. هذا الامتداد والاختلاط، إرادياً كان أم لا، لا يمكن اعتباره بالضرورة على أنه خطوة في اتجاه كسر الخوف من الآخر، رغم انقضاء ما يقارب ربع قرنٍ على انتهاء الحرب الأهلية.

مراكز الترفيه المتواجدة في منطقة عين الرمانة تبدو وكأنها الأماكن الوحيدة التي توفّر شروط الاختلاط بين المنطقتين. ومراكز الترفيه هذه عبارة عن صالات للعب القمار، أو ما يسمى بـ”الفيديو بوكر”. الطائفية تبدو وكأنها تكمن في كل شيء، من النفوس إلى البرغل، باستثناء المال. في عين الرمانة، تنتشر هذه المراكز بشكل لافت، وتستقطب شباب المنطقتين. بعض سكان الشياح يبدون امتعاضهم من تواجدها على مقربة منهم، متهمين القيمين عليها بنشر “الرذيلة” والألعاب “الحرام”، وإيقاع شباب المنطقة ضحيةً لها. في المقلب الآخر، يبدي بعض سكان عين الرمانة الذين لا يدافعون عن فكرة وجودها بالمبدأ، امتعاضهم من المشاكل التي تسببها هذه المراكز بين أولئك الذين يترددون عليها. مشاكل وإن كانت نتيجة خلافات مالية، إلا أنها تتخذ سريعاً طابعا مذهبيا.

اقرأ ايضا

عند سؤال أهل المنطقة عن سبب قبولهم بوجودها، يكون الجواب الأبسط، كما يلخصه لسان أحد أصحاب متاجر البقالة كالتالي: “خي نحن مش قد هالعالم، وفهمك كفاية”. الاستفسار عن كيفية عمل هذه المراكز من قبل القيمين عليها، أمر مستحيل. مجرد السؤال عن صاحبها، وعن المنتفعين منها، وتفاصيل عملها، قد يضع السائل في دائرة الشبهة.

في روايته الشهيرة “لعبة دنيرو” للروائي راوي الحاج، التي تتناول تفاصيل الحرب الأهلية في المنطقة الشرقية، تأخذ المراكز هذه حيزاً مهماً في روايته. يفصّل فيها كيف كان يتم الاعتماد على عائداتها من قبل زعماء العصابات في تلك الفترة من أجل تمويل المقاتلين بالمعاشات والمساعدات الغذائية لسكان هذه المناطق. رغم اختلاف المرحلة، إلا أن الغموض الذي يلفّ هذه “التجارة” يطرح العديد من التساؤلات، حول هوية الأشخاص الذين يتحكمون بها. يشرح أحد الشبان من منطقة الشياح، وهو من الذين يترددون إلى منطقة عين الرمانة للعب هناك، أن المراكز هذه هي الوحيدة التي لا تشهد انخفاضا في عدد روادها مهما كانت الظروف. ورغم التوترات الأمنية التي غالباً ما تتكرر إلا أن هذه المراكز تبقى دائماً خارج نطاق الاستهداف بأشخاص القيمين عليها، بل تنحصر الإشكالات بين أولئك الذين يترددون عليها.

ويشرح الشاب نفسه سبب ذلك بوجود احتمالين، الأول طبيعة الناس التي تدير هذه الأماكن، والنفوذ الذي يمتلكونه ويساهم ربما في تجنب التصادم معهم، لما قد ينتج عن ذلك من توترات أكثر خطورة. أما الاحتمال الثاني فيختصره بالتالي: “يمكن الجماعة بالمنطقتين شابكين مع بعضهم البعض”.

أحد شباب عين الرمانة يشدد على أن المشكلة لا تكمن في وجود هذه المراكز بحد ذاتها، معللاً ذلك بوجود مراكز مشابهة في أكثر من منطقة في بيروت، كالحمراء وعين المريسة والروشة ذات الطبيعة المختلطة، والتي إن شهدت إشكالا ما، لا يتعدى الإطار الفردي. عقلانية الشاب في تفسير المشاكل التي تسببها هذه المراكز بين المنطقتين، تحدها نقمة طائفية لا يمكن إغفالها. فالشاب الذي يرفض فكرة وجودها في منطقته بالأساس، يعرف مسبقاً، أنها أمنية من الصعب أن تتحقق. وبدلاًُ من السعي لتحقيقها، يقدم اقتراحاً أكثر بساطة، على الطريقة اللبنانية: “لماذا لا تقام مراكز ترفيه في منطقتهم أيضاً؟ لو حصل ذلك لما اضطروا إلى المجيء إلى هنا لافتعال المشاكل”. عقلية الـ”ستة وستة مكرر” تبدو كأنها صالحة لحل كل المشاكل. لا يكتفي الشاب بهذا القدر. يضيف على ذالك ضرورة فتح محلات لبيع المشروبات الروحية في “مناطقهم” أيضاً، على قاعدة “مش منطق كل ما واحد بدو يصفق سكرة يجي لعندنا على المنطقة”.

القانون الأرثوذكسي الذي يقضي بأن تنتخب كل طائفة ممثليها، ربما يساهم في المستقبل، في حال إقراره، بتحقيق ما يطمح إليه هذا الشاب. لكن طموح الشباب بالتقسيم قد لا يلقى استحسان أصحاب محلات الكحول في منطقته. فـ”الممنوع” في الشياح وجوارها من المناطق ذات الطابع الشيعي، يجعل منه بضاعة مرغوبة لا توفرها المحلات في عين الرمانة فحسب، بل يعتاش أصحابها على تدفق “الغريب” لشرائها.

التمدد إلى عين الرمانة، المرفوض من بعض سكانها رغم حاجتهم له وانتفاعهم منه، يبدو في هذه الحال كأنه يتخطى مسألة الكثافة السكانية في المناطق الشيعية، ليصير بحثاً عن فرصة للتمتع بـ”خيرات” يرفض أولياء أمورها السماح بتواجدها ضمن نطاقهم الجغرافي.. وليست مراكز الترفيه إلا واحدةً منها.

السابق
عراقيل المجتمع لم تمنعهم من الزواج المدني
التالي
ثورة مصر تستحق النجاح