عن أي دولة نبحث؟


يصعب إيجاد إجابة واحدة على مشكلات العالمين العربي والإسلامي. لا نستطيع القول: لماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم غيرهم، متجاهلين التجارب المختلفة لشعوب وبلدان هذين العالمين وعدم الأخذ بنظر الاعتبار مستويات التطور والتقدم الاقتصادي أو الصناعي وبعض التجارب السياسية.
ربما يطرح السؤال اليوم عن أسباب اشتراك البلدان الإسلامية في العودة إلى الثقافة الدينية وإعلائها على القيم الاجتماعية والسياسية المعاصرة وطبعها بطابع العنف الملازم للتعصب واليقينية الغيبية وتعطيل منجزات العقل والعلوم الإنسانية الحديثة. لكن هذه الظاهرة الأكثر شيوعاً ليست أحادية وليست من طبيعة صافية. فالإسلام السياسي هو تيارات واتجاهات متعددة، وممارسته تخضع لظروف البلدان التي يفعل فيها.
فلا يمكن بحال من الأحوال اعتبار الإسلام السياسي نفسه في تركيا وماليزيا وإندونيسيا والباكستان وإيران ومصر والجزائر ومالي والخليج العربي إلى آخر السلسلة. لا شك بأن «الإخوان المسلمين» أو جماعات «القاعدة» تنظيمات دولية، تخضع إلى معايير ومفاهيم واحدة، ولكل منها ارتباطاتها الواسعة مع دول ومصالح دول وإدارات أمنية منذ نشأتها وحتى الآن. إلا أن هذا الحكم لا يكفي لتفسير صعود الإسلام السياسي في كل المنطقة.
في مقدمة الأسباب التي باتت محل إجماع الدارسين، فشل السياسات الليبرالية والقومية واليسارية، وتداعيات أزمة التنمية وتشوهاتها، وحدة الفوارق الاجتماعية وتمركز الثروة ومظاهرها الاستهلاكية الصادمة للوعي الشعبي مقابل الفقر والبطالة والهجرة والأمية. وإلى هذه جميعها يضاف العنصر الأهم وهو الاستبداد السياسي المرتكز في بعض وسائله على الثقافة والمؤسسات الدينية. ما نشهده بالتالي أزمة وجودية للإنسان العربي والمسلم يشعر إزاءها بالحاجة إلى هذه الثقافة بالذات حيال تحديات ومصادر قوة قمعية وحاجزة ومعطلة لكثير من الخيارات الأخرى.
ما يجب أن نلفت له دائماً أن هذا المناخ جديد ولم يكن هو نفسه قبل نصف قرن على الأقل. كل الظواهر التي شهدها لبنان في بضع سنوات لم تكن موجودة من قبل بطبيعتها وبحجمها. والأمر نفسه ينطبق على المحيط العربي والإسلامي. كانت لهذه الظواهر جذور لا شك بذلك، وكانت لها مرجعيات تاريخية. لكنها تبقى من نتاج الحاضر في أزمة تطوره وتعقيداته. فلا تعالج مشكلات من هذا النوع على أرض الثقافة الدينية وحدها، ولا في منتديات التقريب بين المذاهب والحوار بين الأديان، ولا في المباراة بين العقائد والجماعات. أما العنف فهو الوسيلة الأكثر خدمة لهذه القوى والتيارات، بل هو الذي يعطيها معظم شرعيتها الشعبية في نظر جمهورها، بوصفها ضحية وبوصفها قوة مقاومة وردع.
يبدو الحديث عن مسؤولية الدولة أحياناً وكأنه دعوة لكي تحمل الدولة عقيدة شمولية مناقضة لضبط المجتمع أو إعادة صياغته، وهو ما حصل مع القوى القومية واليسارية وما تسعى إليه القوى التي ترفع شعار «العلمنة».
يجب إزالة هذا الالتباس وكذلك الوهم بوظيفة الدولة التي يرتجيها الناس وتستطيع أن تحل مشكلاتهم. فلا علمنة الدولة في تركيا أو تونس أو اليمن الجنوبي وإلى حد في الدول ذات العقيدة القومية (البعث) استطاعت أن تحل هذه المشكلة، ولا كذلك دول المنظومة الاشتراكية. على العكس من ذلك أكدت هذه التجارب الحاجة إلى الحرية والمنافسة والصراع الديموقراطي إلى جانب إطلاق ديناميات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية من أجل مقاومة الثقافات الحصرية والمغلقة وعدم استثارتها بالقمع والإلغاء.
وتظل مسألة السلطة الأكثر خطورة، فإما أن تقوم على التداول السلمي وضمان حقوق الناس وحرياتهم أو تقوم على الاحتكار. وفي كل مرة تعجز أي سلطة عن استيعاب التطور الاجتماعي وفتح الآفاق له نكون في حال تصادم. والسلطة أكثر تشعباً من فكرة «الأمن» و«البوليس». هي موجودة في صميم العلاقات بين الأفراد والجماعات والمصالح ويمكنها أن تتجلى في صورة الغلبة السياسية أو في صورة الامتيازات والسيطرة على رموز المجتمع ونواصيه المتعددة. فالطائفية ليست بالضرورة سلطة مادية غالبة بين جماعتين أو أكثر، بل هي كذلك ذات رمزية قوية التأثير في تظهير محاسن فئة ومساوئ أخرى، أو في إظهار الفروقات المختلفة وإعطائها معانيَ سلبية أو إيجابية.
تلعب الطقوس والرموز العبادية وأشكال التدين والولاء وكأنها علائم متعدية على العصبيات الأخرى. في مجتمع تعددي أو متنوع هناك حاجة دائمة لقوننة وضبط سلوكيات الأفراد والجماعات وإلزامها التقيد بنظام عام يراعي حدود القبول المتبادل ويخلق روح الاحترام للآخر وحق الاختلاف له ومعه. فلا يُدار مبنى مشترك واحد متعدد المنازل بحرية مطلقة، فكيف تُدار دول وأوطان بثقافة الإلغاء المتبادل أو الإنكار المتبادل؟ هكذا مثلاً نص الدستور اللبناني على حرية الاعتقاد واحترام الدولة لجميع الأديان والمذاهب وحرية إقامة الشعائر الدينية وحمايتها شرط أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام.
كان اللبنانيون يمارسون شعائرهم في بيئاتهم يشاركهم الآخرون ويتمتعون في هذه الشراكة. وكان في المسيحي شيء من الإسلام، وفي المسلم شيء من المسيحية وهلمجراً. لكن تحول الثقافة الدينية إلى الشاشات وعجز الدولة عن تطبيق القانون حوّل الأمر إلى حفلات مبارزة وتحد، وإلى استخدام المنابر الإعلامية وسائل للتحريض والمشاحنات والتجاوز على مشاعر الآخرين. وإذا شئنا إحصاء هذه التجاوزات فلا نحصيها، حتى صار كل ديك على شاشته يصيح. نريد الدولة لذلك بلا عقيدة، ولكن نريدها حامية «للنظام العام». فلو كان الضمير وحده يصلح لإدارة المجتمعات لما اخترع الناس الدولة. نريد الدولة بسلطتها القوية ولكن لا نريدها سلطة لا يحكمها قانون ولا تعطي شرعيتها عدالة. هذه الدولة هي التي يمكن أن تنقذنا من احتمالات الوقوع في مهاوي التوحش مجرد أن نتخلى عن مرجعيتها.

السابق
الإرهاب من وطني إلى مُعَوْلم
التالي
قمة الرياض وطاقات الامة