الاسد اختار “الجحيم” بدل السلام

مرة أخرى، فاجأ الرئيس السوري بشار الأسد أصدقاء وأعداءه في آن، حين أدلى أمس بخطاب ناري دعا فيه إلى التعبئة الوطنية الشاملة" لالحاق الهزيمة بالمعارضة المسلحة، بدلاً من المصالحة الوطنية الشاملة، وشدد فيه على أن الحل السياسي يجب أن يأتي بعد أن يلقي الثوار السلاح.
الأصدقاء، وعلى رأسهم روسيا، سيكونون في موقف صعب الآن في مفاوضاتهم المفترضة مع الأميركيين هذا الأسبوع، حيث أن الأسد لم يطرح (كما كانوا ينتظرون) مبادرة تفاوضية، بل تقدم بشروط تعجزية تنسف أي مفاوضات وتغلق الباب أمام أي حلول قريبة.
وهذ ما قد يؤدي عملياً إلى إجهاض مبادرتين روسيتين جاءتا قبل أيام على لسان كلٍ من الرئيس الروسي بوتين ونائب وزير خارجيته بوغدانوف، وكانت كلتاهما مكملة للأخرى. فالأول أعلن للمرة الأولى أن "شغل روسيا الشاغل هو مصير سورية وليس مصير الأسد". لكن الأهم هو قوله أنه يكفي سيطرة عائلة الأسد على السلطة طيلة 40 عاما. أما الثاني، فقد اعترف بأن انتصار المعارضة العسكرية ليس مستبعدا، الأمر الذي يجب أن يعني فتح الأبواب والنوافذ أمام التسوية.
وقد أطلقت موسكو كل هذه المبادرات القوية، فيما كانت قطع البحرية الروسية تبحر نحو طرطوس ربما لإجلاء أكثر من 50 ألف مواطن روسي يقيمون في البلاد.
أما الأعداء، وهم كثر ويشكّلون الآن معظم دول العالم بما في ذلك أوروبا وأميركا والمنطقة العربية، فقد فوجئوا هم أيضاً بهذا الخطاب المتصلّب الذي كرر حرفياً مواقف الأسد منذ بداية الأزمة قبل سنتين، بعد أن كانت التسريبات من النظام السوري نفسه (عبر صحيفة "الأخبار" اللبنانية الموالية له) تتحدث عن نية دمشق تبني صيغة تسوية جنيف-2 بين موسكو وواشنطن.

ماذا تعني هذه المفاجاة الأسدية الجديدة؟
الكثير.
فهي تعني، أولاً، أن الطائفة العلوية حسمت على يبدو أمرها وقررت الوقوف حتى النهاية إلى جانب حلول الأسد العسكرية، كما توقّع مؤخراً تقرير مهم للمجلس الأطلسي (Atlantic Council ) جاء فيه أن القيادة السورية "نجحت في تعبئة العلويين طائفياً حول عائلة الأسد- مخلوف، وفي ربط مصير الكيان السوري نفسه بمصير النظام العلوي". وهذا ما سيجعل احتمال حدوث انقلاب عسكري علوي- سنّي مشترك بعيد المنال في هذه المرحلة. إنه لايزال ممكناً، لكنه بات الآن أكثر صعوبة.
وهي (المفاجأة) تشير، ثانياً، إلى أن الحرب السورية ستتواصل طيلة السنة الجديدة 2013 بشكل ربما يكون أعنف بكثير من ذي قبل، جاعلة بذلك تحذيرات الأخضر الإيراهيمي بشأن إنزلاق البلاد إلى "الجحيم" ما لم تتحقق التسوية السياسية نبوءة ذاتية التحقق. وهذا ما سيطرح علامات استفهام كبرى حول مصير مهمة الإبراهيمي نفسها.
ثالثاً، وربما هنا الأهم، أن الأسد لم يكن ليتخذ هذه المواقف المتصلبة، لولا علمه أن الطرفين الروسي والأميركي معاً غير مهتمين في الواقع بتحقيق تسوية سريعة في سورية.
صحيح أن روسيا أبدت مؤخراً استعدادا مبدئيا لإبرام صفقة حول سورية تتضمن، في محصلاتها النهائية، وضع حد لحكم عائلة الأسد المستمر منذ 40 سنة كما ألمح بوتين؛ وصحيح أن مبادرة الأميركييين لوضع جبهة النصرة على لائحة الإرهاب كانت في العمق "بيعة" أميركية واضحة لروسيا القلقة من سيطرة الإسلاميين الجهاديين على بلاد الشام، إلا أن ذلك كل ذلك لم يرق في الحقيقة إلى درجة بحث الطرفين عن حلول جدية.
كيف؟
ضع جانباً البيانات الدبلوماسية الأميركية، التي تلهج بالحديث عن ضرورات التسوية السياسية وعن معاناة الشعب السوري، فتكتشف فوراً أن ماتريده واشنطن غير ماتقوله. إذ يبدو أن ذلك الجناح في الإدارة الأميركية الداعي إلى مواصلة القتال حتى سقوط النظام, لاتزال له اليد العليا في البيت الأبيض.
ويبقى الانتظار لمعرفة ما إذا كان ترشيح جون كيري كوزير للخارجية، بما عُرف عنه من اتصالات وثيقة مع الروس وتمسّك بالحلول الدبلوماسية (كان أول من وصف حرب فيتنام العام 1960 بأنها "خطأ")، قد يغيِّر مواقف البيت الأبيض.
لكن، حتى الآن، تبدو واشنطن سعيدة بغرق أيران في الوحول السورية، الأمر الذي يستنزف اقتصادها على نحو خطير (مليار دولار شهرياً لدفع رواتب موظفي الدولة السورية)، ويدمّر ماتبقى من نفوذ سياسي- إديولوجي لها في الشرق العربي. كما أنها (واشنطن) تشعر الراحة لتآكل مواقع موسكو الأخلاقية في العالم، بسبب دعمها لرئيس سوري يصفه المسؤولون الروس أنفسهم في مجالسهم الخاصة بأنه "جزار". (وفق معلومات نيويورك تايمز).
وفوق هذا وذاك، يشكّل تقدُّم المعارضة المسلحة السورية مؤخراً على جبهات قتال عدة، مبرراً لواشنطن كي تقول أن التدخل العسكري الغربي في سورية، لم يعد ضرورياً، ولتروِّج أيضاً (وإن كجزء من الحرب السايكولوجية) أن سقوط النظام بات وشيكا. وهذا ما أشارت إليه مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى هذا الأسبوع، حين قالت أن " سياسة الولايات المتحدة في سورية نجحت من دون تدخل عسكري مباشر من جانبها"(… ).
أما بالنسبة إلى روسيا، وعلى رغم أنها بدأت تشعر بالوطأة الدولية الثقيلة لدعم نظام سوري على هذا القدر من باللامبالاة بالأكلاف الإنسانية والأخلاقية، إلا أنها ليست مستعدة لبيع جلد الأسد قبل الحصول على صفقة جديدة مع واشنطن مماثلة لصفقة "إعادة التنظيم" ( Reset) العام 2009 التي أقرت فيها واشنطن بنفوذ موسكو في جوارها الإقليمي في مقابل تخلي هذه الأخيرة عن دعم إيران عسكرياً.

ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
أمراً واحدا: واشنطن تحبذ تسوية مع موسكو لحل الأزمة السورية، كما دلّت على ذلك المفاوضات الخاصة الروسية- الأميركية الأخيرة، لكنها ليست مستعجلة لإبرامها بسرعة. فيما موسكو باتت الآن تريد هذه التسوية بسرعة، بعد أن بدا واضحاً أن كل وعود النظام السوري بحسم الأمور عسكرياً باءت بالفشل وأن سيطرته على البلاد تتآكل ببطء ولكن بثبات، لكنها ليست مستعدة لإبرام أي تسوية بأي ثمن.
وهكذا، تبادل الطرفان المواقف، بعد أن كانت واشنطن هي التي على عجلة من أمرها، فيما كانت موسكو قبل أشهر غير مستعجلة البتة لاعتقادها أن الأسد سيفوز.
وإلى أن يصل الطرفان إلى اتفاق على ضبط توقيت ساعتيهما على إيقاع الحل المشترك، سيكون ثمة فسحة أخرى من الوقت أمام عائلة الأسد لمواصلة مسلسل الدمار.
وهذا ما أفصحت عنه بوضوح مفاجأة الأسد الأخيرة.

السابق
سعيد صالح: ابنتي كاذبة
التالي
يحرق رسائل حبيبته.. والمنزل