ميشال سماحة رجل العام الأمني

نحن في الزلزال السوري بالمعنى "الياباني" الذي كتبَتْه رواية هاروكي موراكامي أي تأثير الهزات الأرضية على خيارات الأفراد الحميمة ومصير كلٍّ منهم الشخصي… فعام 2012 هو عام لبناني آخر ينقضي على ضفاف (وليس هوامش) هذا الزلزال ظهر فيه، في حالة البعض، تحوّلُ رجالِ سياسةٍ إلى مهماتٍ "أمنية" أو الأدق لا أمنية

ظهرت هذا العام صدمة ميشال سماحة بما هي فضيحة مدوّيةٌ دون "رتبته" السياسية بكثير. ظهرت النهاية المأسوية لـِ "ظاهرة" وسام الحسن الفردية التي هي نتيجة مباشرة لكثافة دولية إقليمية، غاب الشخص وبقيت الكثافة طبعا. ظهر خطف الرهائن اللبنانيين الشيعة في إعزاز إعلانا أوّلياً مدروسا، عبر اختيار عشوائيٍّ لسيّاحٍ دينيين مدنيين أبرياء، سيتحوّل لاحقا إلى إغلاق للطريق التركي البرّي إلى سوريا فلبنان من إيران والعكس.
من كل هذه الوقائع – وبينها باخرة السلاح الذي كان متّجهاً لتهريبه إلى سوريا عبر طرابلس ذات الهوية السياسيّة الواضحة في الصراع السوري – والعديد من الحوادث المتفرقة شبه اليومية وبعضها مأسويٌّ جدا من حيث سقوط ضحايا كـ "مجموعة تل كلخ"… بدا هذا العام أمنياً جدا في لبنان. وكل عام لبناني بعد 2005 هو عام أمني في المناخ والهواجس والوقائع التي نعرف ولا نعرف. إنما اختلف 2012 عن سابقاته أنه جعل حالاتٍ سياسيةً تتحوّل نحو الأمني في أدوارها أو يطغى على أدوارها الطابع الأمني على الضفّتين "اللبنانيّتين" المتصارعتين.

اغتيال وسام الحسن كان فشلا أمنيا لرجل أمن. وما أفدح هذا الفشل حين يكون الثمن حياة الشخص نفسها. سقط وسام الحسن بعد دور مثير وناجح في قضية استثنائية هي قضية ميشال سماحة. لقد أدهشني عندما سمعتُ نبأ الاغتيال أنه كان في بيروت. ففداحة قضية ميشال سماحة شكلا ومضمونا وتحضيرا كانت لا تحتاج إلى الكثير من الدهاء السياسي لكي يعرف وسام الحسن أنه يجب أن يغادر لبنان لفترة طويلة. هل كانت حركة خروجه وعودته الدائمة إلى العاصمة أو أي منطقة لبنانية أخرى تعبيرا عن نقص ما في مقدرته السياسية أو عن خللٍ كبيرٍ بين كفاءته الأمنية وبين قدرته على التقييم السياسي؟ لقد سألتُ عديدين بعد الاغتيال من الذين يعرفون وسام الحسن جيداً، وبعضهم أعرف أنه على صلةٍ حميمة به، عن "إمكانات" هذا الضابط المخابراتي الاستثنائي في مجال التقييم السياسي؟ وهو الجريء الذي لا تنقصه الحنكة الأمنية العالية، فتلقّيتُ من بعضهم إجاباتٍ لغير صالح "السياسي" في شخصه بعكس الأمني. وهذا يدفع للتساؤل: هل هو تقصير المسؤولين السياسيين اللبنانيين والعرب والدوليين عنه في تهاونهم بالسماح له بالعودة إلى لبنان بعد كشف ملف ميشال سماحة؟
كان حضور وغياب وسام الحسن جزءا رئيسيا من العام الأمني اللبناني على الضفّتين المتواجهتين المتصارعتين، وعلى كلّ ضفّةٍ حشدٌ جبّارٌ من الدول. تشاء الأقدار، كما لو كانت سطوراً في رواية متتابعةِ الفصول ومفتوحةٍ على نهاياتٍ غير نهائية، أن يكون دورُ وسام الحسن حاسما في جعل ميشال سماحة مرشّحَاً ليكون رجل العام 2012 الأمني.
في رواية للكاتب الياباني هاروكي موراكامي من ذلك النوع من الروايات التي لاتُشبه غيرَها، بل تُشبه نفْسها ككل عمل أدبي عظيم، يروي موراكامي مجموعة قصصٍ تبدو غير مترابطة بموضوعٍ واحد وتحت عنوان مشترك لكتابه هو "ما بعد الهزّة". تارةً يتحدث عن زوجين يواجهان علاقة مضطربة وحيناً عن رجل وحيد بلغ سن الشيخوخة في مصاعبه اليومية وطوراً عن شاب في أول حياته المهنية وتارة عن طبيبة يابانية تأتي إلى بانكوك لحضور مؤتمر طبي إلخ… لكن في كل قصة نكتشف بشكل مبدع وعميق صلةَ الزلزال الذي يضرب هذه المدينة أو تلك بالتحولات النفسية والشخصية الحميمة التي يقوم بها أو يتعرّض لها "أبطالُ" الروايةِ العاديون الغارقون أحياناً في تصوراتِهم الخيالية الساحرة فنياً للقارئ… وإذا نحن أمام رواية في التحليل النفسي لشخصيات من بلدٍ هو اليابان يعيش مع الهزّات الأرضية. لا أستطيع أن أصف الرواية دون أن أؤذيها ولذلك لا حلّ أمام قارئِ هذا المقال سوى الذهاب لقراءة الرواية… ولن يندم
"After the quake" – Vintage Books – Random house – New
.York-2002
نحن في الزلزال السوري بالمعنى "الياباني" أي تواتر وتكرار الهزّات الحياتية والأمنية والسياسية المديدة وفيه يبدو، كما يحصل في الحروب العنيفة أن السياسيّين يتحوّلون إلى أمنيين بأشكال مختلفة، عالية لدى البعض هابطة لدى البعض الآخر، صامتة هنا ضاجّة هنالك، وعبرها تتحول البسيكولوجيا السياسية إلى بسيكولوجيا أمنية وخلالها تنشأ سلوكيّاتٌ جديدةٌ هي جزءٌ واعٍ وأحياناً غيرُ واعٍ من القدرة على البقاء السياسي بل على البقاء. الناس الذين يتعامل معهم السياسي المتحوّل إلى أمني يصبحون مختلفين.
وأنا رغم ذهولي واشمئزازي، كغيري، من الجريمة المتّهم ميشال سماحة بنيّة ارتكابها، فقد انتابني حزنٌ عميق على المآل الذي بلغه ميشال. فهو بالنتيجة واحدٌ من جيلنا وكان أحدَ البارزين فيه. هذه "النهاية" لا تليق بتاريخ ميشال ولذلك كان الحزن هو المسيطر على رد فعلي على الفضيحة بعد أن هدأ غضبي (هدأ ولكنه باقٍ). وفي كل الحالات لا يجب أن يكون هناك مكانٌ للشماتة قطعاً مع رجلٍ كان معروفاً بودّه وحرصِه خلال الحرب الأهلية، حتى بين خصومه، على مدّ الجسور على الجهة الأخرى وتقديم الخدمات كالبحث عن المخطوفين أيام كان قياديا كتائبياً أو غير ذلك لاحقاً من التسهيلات مع الجهاز الأمني السوري لبعض من كان يبتلي بإشكالاتٍ مع هذا الجهاز القاسي. كان آخر اتصال (هاتفي) أجريته معه هو يوم اعتقل ميشال كيلو في دمشق عام 2006 إثر صدور بيان المثقفين اللبنانيين والسوريين المشترك تحت إسم "إعلان بيروت – دمشق". وعدني ميشال سماحة بالمراجعة بشأن إخلاء سبيل ميشال كيلو. ولكنه لم يتصل بي منذ ذلك الحين. غير أن ميشال كيلو أخبرني مؤخّراً قبل بضعة أسابيع في باريس – أي بعد سنوات – أن ميشال سماحة كان على اتصال هاتفي بمنزل كيلو في دمشق ووعد زوجته وأبناءه مرارا بأنه يسعى إلى إخراجه من السجن. يبدو أنه حاول ولم يستطع لأن ميشال كيلو أكمل مدة الحكم كلها في السجن وهي ثلاث سنوات رغم قيام شخصيات عربية وأوروبية عبثاً بمطالبة الرئيس الأسد بإطلاق سراحه بينها الرئيس سليم الحص والدكتور خيرالدين حسيب وعديدون غيرهما.
ليس ميشال سماحة أول سياسيٍّ ينصرف إلى أدوار أمنية ستغيِّر "شخصيّته". فلم تكمن في هذه النقطة فرادةُ تهمته وإنما في نوع الجريمة المتهم بها. منذ 1975 ونحن نشهد – لأن الحرب الأهلية هي أساساً حرب مدنيين – تحوّلَ سياسيين نحو العمل الأمني بمعنييه المخابراتي والعسكري. والطبقة السياسية اللبنانية تعجّ بهذا النوع من الشخصيات حالياً، كما عجّتْ سابقاً على مستويات مختلفة، لكن المرحلة السورية الجديدة عادت تفرز سياسيين نحو المهام الأمنية.
ها هو انفجار الثورة السورية يفتح الباب لتحوّلات شخصية جديدة من السياسي إلى الأمني لا في سوريا وحدها بل في لبنان أيضاً لاسيما في الهيئات والمناطق الداخلة في الحرب الأهلية السورية.وكلما وجد السياسيُّ نفسه غارقاً بطبيعة جوّه الجديد في الداخل أو الخارج وبصورةٍ متزايدة في الأدوار الأمنية ستتحول عزلته – حتى لو كانت "ذهبية" – إلى نمط حياة مما يحْرفه بشكلٍ "غير واعٍ" (بالمعنى الفرويدي) نحو تشوّهٍ في قابلياته كسياسي مدني بالدرجة الأولى. إنها – في ما أظن – لا تبقى عزلةَ "المنفيِّ" رغماً عنه بل تصبح عزلةَ رجلِ الأمنِ الذي تطيب له العزلة كجزءٍ من تكوينه المهني. "عزلة رجل الأمن" هذه هي طريقٌ قد تطوّر خبراتٍ يستطيع آخرون أن يقوموا بها ولكنها تعطّل لدى السياسي عميقاً نموَّ قدراته في العمل السياسي المدني. وأنا هنا لا أتحدث عن شخصيات سياسية كبيرة أو صغيرة مهدّدة بالاغتيال، وإنما عن فئة من السياسيين "يمارسون" العمل الأمني قد يكونون معروفين (أي ذوي سمعة أمنية) وقد لا يكونون.
وسيكون عام 2013 أكثر أمنيةً في لبنان على ضفاف الزلزال السوري المتصاعد. فمنْ من السياسيّين سيتحوّلون أيضاً إلى أمنيين؟!

السابق
الكتيبة التركية خفضت تحركاتها خوفا من أهالي المخطوفين
التالي
الحكومة تطلق اليوم مناقصات التنقيب عن النفط والغاز