مسار التحدي والاستحقاق

في ليلة 29 تشرين الثاني رقص الفلسطيني فرحاً، بإنجاز ديبلوماسي من طبيعة استراتيجية، وفي مثل هذا اليوم، من عام 1947 رقص الإسرائيلي ابتهاجاً بإعلان قرار التقسيم. هم كسبوا دولة عن غير حق، ونحن كسبنا اعترافاً بدولة لكن محتلة.
في أعقاب الهزيمة الحزيرانية عام 1967، صدر عن مجلس الأمن القرار 242، الذي شكل أساس العملية السياسية في المنطقة ومرجعيتها حتى الآن، وقتذاك كانت نقطة البدء للمفاوضات، معروفة لمصر وسوريا والأردن، لأنها دول معترف بسيادتها على الأراضي التي خسرتها في الحرب.
أما نقطة البدء الفلسطينية، فاستوجبت المرور بسلسلة مراحل وحلقات، قبل الوصول إلى الوضع القانوني ـ السياسي، المشابه نسبياً لوضع أراضي الدول العربية الأخرى المحتلة في العام 1967.
كانت مرحلة الكفاح المسلح، مرحلة إعلان وجود للشعب الفلسطيني على خريطة الشرق الأوسط السياسية، وكانت مرحلة انتزاع الاعتراف السياسي بكيانية ما قبل دولتية (منظمة التحرير).
وفي مضاعفات هذا المسلك اتخذت المملكة الأردنية خطوة "فك الارتباط" بين الضفة الغربية وشرق الأردن، كما أخلت مصر مسؤوليتها الإدارية عن قطاع غزة كنتيجة لإبرام معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية. فقط منطقة "الحمّة" الفلسطينية بقيت عالقة بالجولان السوري من الناحية القانونية.
الإنجاز الأخير، أحدث تحولاً نوعياً وجدياً في مقاربة العملية السياسية، وفي مقاربة "حل الدولتين"، لأن الفلسطيني بالأمس فقط، وقف على منصة الدول المعترف بها. وهذا يمكّنه من إعادة بناء ملفه التفاوضي، واعتماد استراتيجيات أكثر نجاعة للعمل من خلال القدرة على تفعيل المعاهدات والمواثيق، وأحكام القانون الدولي الناظم للعلاقات بين الدول، وكذلك من خلال تطوير البنى والهياكل السياسية الفلسطينية لإكسابها شرعية دولية، توفر لها فاعلية وحصانات أفضل وتساعدها على الحد من الصلف الإسرائيلي وتضييق مساحة المناورة أمام إسرائيل، وكبح قدرتها على تجاوز القانون الدولي.
في غمرة الاحتفال بالقرار التاريخي، لم تحظَ القرارات الخمسة الأخرى ذات الصلة التي نجحنا في استصدارها، بالاهتمام المناسب، رغم أهميتها السياسية والعملية. فقد جاء في صدارتها قرار بعنوان "تسوية قضية فلسطين بالوسائل السلمية" وآخر حول "القدس" حيث يؤكد القرار على هوية المدينة الفلسطينية ووضعها القانوني كمدينة محتلة، وينزع شرعية أي تغير ديموغرافي أو جغرافي يمس بمعالمها التاريخية، فضلاً عن لا شرعية الاستيطان والجدار المسمى "غلاف القدس"، وقرار ثالث حول دعم عمل اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف، ورابع وخامس يتعلقان بعمل الأمانة العامة للأمم المتحدة فيما يخص البرنامج الإعلامي لشرح القضية الفلسطينية وعمل شعبة حقوق الفلسطيني في الأمانة العامة للأمم المتحدة.
إن رزمة القرارات تلك، تضع الفلسطيني الذي صاغها بعقله ويده، لنيل التأييد والاعتراف الدوليين، أمام مسؤوليات دقيقة في ممارسته النضالية، حيث لا يمكن بعد هذا الإنجاز، أن نسلك ما يناقض نصوص قرارات نحن رغبنا بما هي عليه ولم تفرض علينا.
إذاً نحن أمام استحقاق يدعونا لرسم خريطة طريق فلسطينية، للإجابة أولاً على خطوتنا التالية. حفاظاً على الدينامية السياسية التي تحققت لنا، وسعياً وراء تطوير القدرات السياسية والعملية على المستويين الدولي والإقليمي.
إن التأمل في خريطة التصويت، يكشف حجم الجهد السياسي والإعلامي اللازم لمعالجة الموقف الأميركي بعدما انفرد واشنطن في تأمين الحماية والرعاية للإسرائيلي على الشكل الاستثنائي الذي ظهر فيه.
كما أن الموقفين البريطاني والألماني اللذان امتنعا عن التصويت، يفرضان علينا التفكير بأسلوب عمل مختلف في الميدان الأوروبي، إذ لا يعفينا النجاح في انتزاع القرار من ضرورة كسب هذه الدول القادرة على إحداث تحول نوعي واختراق حقيقي في مسار ومصير الصراع الدائر.
أما على الجانب الإسرائيلي، فإن المرافعة البائسة لمندوبهم في الأمم المتحدة، لم تقنع أحد بألاعيبها اللفظية حول عملية السلام فقد كان لافتاً ذاك الهجوم الشرس على الرئيس أبو مازن من خلال التركيز الحاد على حالة الانقسام الفلسطيني الداخلي والتأكيد على استحالة العودة إلى حدود 4 حزيران بما يتناغم مع قوة رفض الاعتراف الإسرائيلي بحدود الدولة الفلسطينية وتظهير الصورة السلبية للفلسطينيين، العاجزين عن توحيد كلمتهم، فضلاً عن توحيد صفوفهم. حقاً لقد رمى القفاز الداخلي بوجهنا، إذ أن التحدي الآن هو تحدي إنجاز المصالحة الوطنية، مصالحة تستند أولاً إلى حقيقة وحدة الشعب، التي تجلت في الفترة الماضية، وتحديداً أثناء التصدي للعدوان على غزة.
إن الجرعة الإيجابية، والمناخ النفسي الفلسطيني يشهد حالة صعود، بعد فترة من المراوحة والقنوط. هذه الحالة تشكل حاضنة جيدة لإنجاز مصالحة حقيقة تتطلب من حركة حماس جرأة يجب أن تبديها لاختراق تحفظاتها السياسية على البرنامج الوطني بعد أن أبرمت اتفاق هدنة مع إسرائيل بوساطة مصرية ودعم أميركي، مصالحه ترد الاعتبار للديموقراطية الفلسطينية من خلال العودة للاحتكام للشعب ولصندوق الاقتراع ودون ذلك لا ينبغي الحديث عن المصالحة.
لقد برهنت التجربة على قدرة الفلسطيني على تعديل المشهد ودفع المركب بالوجهة الصحيحة.. لكن هذا رهن بحسن التدبير والتصرف وبالقدرة على مراكمة الخطوات الصغيرة التي تصنع نصر استراتيجي.

السابق
دراسة قانونية تدعو لرفع الحصانة عن صقر وتصف الحريري بالمحرض
التالي
قبيسي: بالحوار نجعل من لبنان قلعة حصينة في وجه الاعتداءات الاسرائيلية