ذكرى عاشوراء… تتشح مناطق إحيائها بالأسود

«كل يوم عاشوراء، كل أرض كربلاء»، شعار لا يتم الالتزام بحرفيته. ربما يكمن معناه في نفوس المؤمنين به، لكن ترجمته تتم فقط خلال الأيام العشرة التي تستعيد الذكرى. أيام كافية لتكشف تناقضات ومفارقات داخل الطائفة نفسها. الرايات السود والشعارات ومجالس العزاء التي تعبّر عن الحدث، تعلن أنك دخلت مناطق تواجد الطائفة و«نفوذها». الجو العام الذي تفرضه «عاشوراء» كمناسبة دينية لا يختلف كثيراً عن التأثير الذي تفرضه أية مناسبة دينية أخرى. الفارق الوحيد هنا يكمن في مضمونها الحزين أولاً، وكونها تعني على وجه الخصوص فئةً دينية ومذهبية دون سواها ثانياً. عشرة أيام تفرض نمطاً جديداً للحركة. الأشخاص هم أنفسهم والمناطق هي ذاتها. لكن الجو الحزين يصبغ المناطق الشيعية خلال هذه المناسبة، ويغيّر الكثير فيها.
التحية الصباحية تختلف عن سائر الأيام. ملامح الوجوه نفسها التي تشاهدها قبل يوم فقط من بداية الذكرى تختلف في اليوم التالي. الابتسامات وجلسات السمر في المقاهي والمطاعم «مش مستحبة»، يقل روّادها، وإن حضروا فيكون ذلك، في الكثير من الحالات، بعد انتهاء مجالس العزاء. واحتراماً لها، تستبدل الأحاديث العادية بأحاديث ترتبط بالمناسبة العاشورائية، وتشرف عليها أناشيد حسينية تعرض على الشاشات في المقاهي. المتغيّر الوحيد الذي قد يكسر القاعدة هو مباراة كرة قدم لـ«برشلونة» أو «ريال مدريد». في هذه الحالة فقط يخطف أخضر الملاعب الأضواء بدلاً من الأسود، ولو كان ذلك من خلال الشاشة فقط.
مجالس العزاء تنتشر في كل المناطق ذات التواجد الشيعي. العثور عليها ليس بالمهمة الصعبة. اتبع الرايات السوداء إلى أن تصل إلى الطريق المسدود. جواب السؤال عن سبب إغلاق الطريق واحد: «إجراءات أمنية». والاعتراض حين يتعلق الأمر بالمسائل الدينية، سواء كانت إسلامية أو مسيحية، سيكون ضرباً من الجنون. بلاد الطوائف لا تحميها إلا الطوائف. وفي الضاحية، حيث الأغلبية الشيعية، يظل الامتعاض تحت السيطرة، على قاعدة: «ولو! شيعة بين بعضنا».
في المناطق المختلطة يختلف الموقف. الاحتقان المذهبي يزداد يوماً بعد يوماً، ومعه يتقلص احترام الطقوس الدينية المختلفة.
في زقاق البلاط مثلا، تُقطع الطريق بالقرب من جامع المنطقة كل يوم أثناء إقامة مجلس العزاء، لمدة ساعتين. التفسير هو عينه، لكن مع بعض الإضافات. تحضر ذريعة الاحتقان المذهبي هذه المرة عند بعض الشبان المنتشرين على جانبي الطريق. «في ظل ارتفاع التشنج الطائفي بين السنة والشيعة ووصوله إلى مرحلة الخطر، كما حدث في صيدا مثلاً، قد يقدم أحد الطوابير الخامسة الكثيرة على استهداف هذا التجمع. ونظراً إلى حساسية المناسبة، من الصعب السيطرة على تبعات فعل كهذا»، يشرح أحدهم.
التبريرات الأمنية، إن صدقت، لا تلغي وجود استفزازات أخرى غير مبررة. السيارات المتجولة بمكبرات صوت تطلق أناشيد عاشورائية مثال على تلك الاستفزازات وليس حصراً لها. «تأكيد ومجاهرة بالهوية الدينية والتفاخر بها، ولم لا؟». يقفز أحد الشبان ليقطع الاتهام بشيء من التهجّم. وقبل أن ينهي دفاعه عن أن الشيعة كانوا يمارسون شعائرهم بسريّة خوفاً من الاضطهاد، يقاطعه أحد رفاقه: «وقبل عاشوراء، جورج وسوف شو بأكد؟». الممتعضون من الصوت المرتفع ينالون حصتهم أيضاً. الخلاصة أن باسم الكربلائي ليس أقل سحراً أو إزعاجاً في أيام عاشوراء من جورج وسوف في سواها من الأيام. وقائع لا ينفيها أصحاب المناسبة. يجزم بعضهم ان من يقوم بتلك الاستفزازات لا يعكس جوهر الحدث الديني ولا يعبّر عنه.
المشهد المتغيّر ينعكس أيضاً على متاجر الموسيقى والعربات الجوالة التي تجد في الذكرى موسماً لسلعة مختلفة. الشبان الذين يتجولون في سياراتهم ليلاً في الأحياء على وقع الأغاني والموسيقى الصاخبة، لا ينكفئون في بيوتهم في عاشوراء. «الكزدورة» لا تمنعها المناسبة، شرط أن تستبدل الأغاني بالأناشيد. التشابه بين تفاصيل الحياة العادية وبين المناسبة الدينية لا يقتصر على ذلك فقط. في الأيام العادية، يختلف الأصدقاء حول المقهى الذي ينوون السهر فيه لاعتبارات عدّة. أماكن مجالس العزاء أيضاً، وإن كانت لا تختلف في ما بينها بالهدف والمضمون، تخضع لاعتبارات شبيهة. القارئ وقدرته على سرد الرواية العاشورائية، موقع المكان، الجهة الحزبية المنظمة والأشخاص المناسبون لقصد المجلس سوية، عناصر ضرورية لاتخاذ القرار.
الفروقات الاجتماعية لا تغيب أيضاً. مجالس العزاء العامة والشعارات المرتبطة بها، تختفي كلياً على سبيل المثال في منطقة بئر حسن، وهي منطقة تتسم بطابع أكثر ثراء. المنطقة التي لا يفصل بينها وبين منطقة الجناح الفقيرة سوى شارع واحد، تبدو وكأنها بعيدة كلياً عن الحدث، رغم التواجد الحزبي فيها، سواء من «حزب الله» أم من «حركة أمل». «ثورة المظلوم على الظالم» تغيب بشقها الاجتماعي هنا داخل الطائفة نفسها. تبدو وكأنها غير ضرورية أو غير مرحب بها في مناطق الأثرياء. يقتصر إحياء الذكرى على المناطق الشعبية غالبا، وتزداد كثافةً وانتشارا كلما تراجع المستوى الاقتصادي والاجتماعي للمنطقة. حي السلم والأحياء الشبيهة به هي الأكثر «حزناً» و«كآبة». يزداد الإحساس بهما ليلاً. لا تتغير ملامحها بين النهار والليل. المتغير الوحيد الذي يطرأ هو انقطاع الكهرباء. حينها يمتزج سواد الرايات في هذه المناطق بسواد ليلها.
ذكرى عاشوراء لا تخلو من التوظيف السياسي. يتفرد «حزب الله» و«حركة أمل» كلٌ في المنطقة التي يحظى بالتأييد الشعبي فيها. تكسر «حركة أمل» بقبعاتها الخضراء قاعدة اللباس الأسود في عاشوراء، لتميّز نفسها. في المناطق المتنازع عليها أو المختلطة، يتقاسمها الطرفان بالتراضي، ومجالس العزاء تقام فيها مداورةً. يحرص الطرفان أن لا يفسد عشق الحسين في الود قضية. أما مجلس العزاء الذي أقيم في منطقة الحمراء مؤخراً، بشكل مفاجئ، فخالف القاعدة. لا يعلن المجلس عن هويته الحزبية. يكتفي، حتى الآن على الأقل، بالتمركز قرب الحانات وأماكن السهر.
تقاسم الطائفة من قبل الطرفين الأقوى على الساحة الشيعية، وإن كان يطغى على ما تبقى من ألوانٍ مختلفة ومعارضة لهما داخلها، لكنه بالتأكيد لا يلغيها. منهم من لا يغرق في ممارسة شعائر الذكرى بحذافيرها. «ليس باستطاعتي التفاعل مع كل شعائرها. حضور المجالس التي كنت أحرص على عدم تفويتها في كل عام، أنفر منه اليوم لأسباب كثيرة، أهمها الطابع الحزبي والمذهبي الذي يطغى عليها بدلاً من الروحي»، تقول إحدى الشابات «الملتزمات» لدى سؤالها عن كيفية اختيار مجلس العزاء.
النفور من بعض المظاهر التي ترافق المناسبة، لا يصل إلى حد التمرد عليها. اللباس الأسود ما زال حاضراً، وإن تخلّفت الفتاة عن الالتزام به يومياً. تشرح سبب ذلك بأنها غير قادرة على الانفصال كلياً عن شعائر المناسبة والالتزام بالشق الروحي منها، الذي يمثل برأيها الأساس. الأمر لا يرتبط بالخوف من ردة فعل قد تستنكر التحول. «هيك، ما بعرف ليه ما بتخيل حالي ضاهرة بثياب عادية في عاشوراء». تحتار في تفسير السبب، لعله وهج الذكرى نفسها الذي يرتبط بذاكرة طويلة من الصعب التخلي عنها بسهولة.  

السابق
الشيخ حسن البغدادي: جمعية الامام الصادق فكرة لاحياء تراث علماء جبل عامل
التالي
عباس: التهدئة يجب أن تكون بداية لإنهاء الاحتلال