على حـافة الشهادة

غدا القتل والشهادة في قطاع غزة في ظل العدوان الإسرائيلي الراهن، كأسلافه، مسألة يومية وحقيقة معيشة. وبديهي أن لا أحد يشعر بطعم مرارته سوى من يبقون من محبي الشهيد، فيما يؤمن كثيرون أن الشهيد نفسه يتذوق حلاوة شهد لا يشعر بها سواه. وكثيرون يتمنون أن يطعمهم الله الشهادة وينالون ثوابها في الآخرة. أما أنا، وبصدق، فتجاوزت بسنين عنفوان التطلع إلى الشهادة بالرغم من أني صرت أحسب لآخرتي وأعدّ أيامها. وكثيرا ما يسألني أصدقاء قلقون من وجودي في غزة فكنت أطمئنهم أنني لم أشعر يوماً بالأمان قدر ما أشعر هذه الأيام لأنني أقرب ما أكون إلى المكان الذي أود أن أُدفن فيه.
ولكن الشهادة لا ينالها فقط طالبها والساعي إليها، وربما تمر في طريقها على من لا يفكر فيها وقد لا يرغب بها. وأكاد أكون بين أقرب الناس إليها بالأمس من دون رغبة ولا اشتياق. وربما أن ما كان مزاحاً من النوع الثقيل كاد يكون أكثر جدية مما يمكن أن يتخيل المرء. فبالأمس، وكعادته في كل صباح، أراد زميلي فايز عجور معرفة ما سأشارك به في عدد اليوم متذرعاً كعادته برغبته في الاطمئنان علي وعلى عائلتي. فأجبته مازحا، أنني شهيد وعائلتي في المستشفى وجيراني سبقوني إلى الجنة. رد فايز بطيبته المعهودة: «ما كنت أعرف أن في الجنة انترنت».
ذهبت إلى برج الشروق الذي يضم الكثير من مكاتب الصحافة والإعلام لزيارة الصديق نضال عيسى الذي يدير قناة «هنا القدس» الفضائية. وكنت أعلم أن البرج قد تعرض قبل يوم من ذلك لغارة إسرائيلية أوقعت جرحى وإصابات بالغة، ولكني أعرف أن الكثير من الصحافيين عادوا للعمل في مكاتبهم هناك. صحيح أن المشهد خارج المبنى كان مثيراً للارتياب، لغياب سيارات الصحافة عن مدخله. ولكن الريبة سرعان ما تتبدد عندما ترى أن السيارات تقف في الجهة الثانية من الطريق لتجنب الحطام الذي يتساقط من البرج إثر غارة الليلة الفائتة.
وكان المصعد معطلاً، لكني اجتهدت بالصعود 11 طابقاً إلى حيث تتمركز القناة. جلست هناك والتقطت صوراً من هناك لأطلال سرايا غزة والدخان لا يزال يتصاعد منها بعدما دمرت الطائرات الإسرائيلية فجراً آخر المباني الملحقة بها. وبعد تناول الإفطار معه – فتة حمص رائعة – قررت الذهاب إلى «المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان» لزيارة الأستاذ راجي الصوراني الذي يدير مع مجموعة من رفاقه المحامين في فلسطين والخارج واحدة من أهم حملات ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين. وأصر نضال على ممارسة دوره في إظهار كرمه وطالبني بالعودة لتناول الغداء معه. وعدته ألا أطيل البقاء عند الأستاذ راجي وتركت أغراضي عنده ونزلت الطوابق كلها لأن المصعد معطل. وأحببت الذهاب سيراً على الأقدام على أمل المرور بمركز «شرطة العباس» الذي دمّرته الطائرات الإسرائيلية في الليلة السابقة.
وما إن سرت عشرات الأمتار حتى دفع دوي قنبلة ألقيت من طائرة على مكان قريب سائق سيارة أجرة للتوقف بجواري مازحا «اطلع عشان ما تستشهد!».
ضحكت وركبت معه السيارة طالباً إيصالي إلى جوار «المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان» راجياً المرور من أمام «شرطة العباس». أكد لي أن الطريق مغلق وأنه سيلتف من خلف «العباس» عن طريق مستشفى الشفاء. كان سائق السيارة شاباً محباً للحياة يمازح المارين في الطريق ورفاقه السائقين. وطوال الوقت كان يقول: «شو ماخذين معنا»!
فعلاً، «شو ماخذين معنا». كررت أمامه القول ثناء عليه. وصلت وصعدت إلى «المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان». وجدت المركز يعج بالنقاشات بعدما حوّله الصحافيون الأجانب إلى واحد من مقارّ عملهم الرئيسية. المهم بعد شرب كأس من الشاي ونقاش متشعب عدت إلى برج الشروق، وهذه المرة من أمام مقر شرطة العباس حيث فتح الطريق. كان ركاماً يجيد الإسرائيليون تشكيله بطريقة طحن تريح عمليات إزالة الركام.
وصعدت الطوابق الـ11 سيراً على الأقدام مرة أخرى. كان في الأمر نوع من إثبات الذات والعافية. تشعر بالارتياح عندما تستوي على كرسي مريح بعد تعب. ومرة أخرى أكرمني نضال بدفعي لتقضية الوقت المتبقي للغداء بصحنين من بزر البطيخ الغزاوي المشهور والمكسرات. ولكن كعادتي نهضت لممارسة هوايتي في التصوير من أعلى وعرض الصور على موقع «فايسبوك». ثم قررت قراءة بعض الصحف على الإنترنت فتركني نضال وذهب إلى مكتب للقناة في الطابق الذي تحتنا.

السابق
3 حروب تُحاصر اللبنانيين
التالي
الحريري ترد على الأسير: لن يأخذنا أحد إلى حيث لا نريد