متى يستقل اللبنانيون؟

مع اقتراب الذكرى التاسعة والستين للاستقلال يتساءل اللبنانيون عما إذا كان بلدهم مستقلاً حقاً، وهم الذين لم يشعروا يوماً بأنهم مستقلون، نظراً إلى أن القاعدة التي قام عليها الميثاق الوطني في العام 1943 «لا شرق ولا غرب»، ولا «ممر للاستعمار أو مقر»، لم تترجم توحيداً للبنانيين الذين كانوا منقسمين آنذاك بين الوحدة العربية والحماية الغربية، فصح فيهم قول الصحافي الكبير جورج نقاش ان سلبيتين لا تصنعان إيجابية، أي وطناً. وها هو العيد يهل بعد أسبوع بالتمام والكمال واللبنانيون في عز انقساماتهم أفقياً وعمودياً. والبعض يرى انهم يشبهون اليوم متوازيين يستحيل التقاؤهما إلا بأعجوبة، ربما غير زمنية!
وثمة من يعتقد ان الاستقلال افتقر إلى الروح منذ البداية. ليس منذ 1943 يوم تظاهر النجادة والكتائب في بيروت مطالبين بالاستقلال وجلاء الجيش الفرنسي عن لبنان، بل منذ سقوط الدولة العثمانية ووقوف لبنان والعرب إلى جانب قوات الحلفاء في مقابل منح بلدانهم الاستقلال.
إلا انهم بدلاً من الاستقلال أُخضعوا لنوع جديد من الاستعمار بموجب اتفاق سايكس ـ بيكو الذي قسّم الشرق العربي بين الفرنسيين والانكليز، الأمر الذي أتاح اغتصاب فلسطين تنفيذاً لوعد بلفور بإقامة وطن قومي يهودي على حساب الشعب الفلسطيني. وفي حين كان على المناضلين من أجل الاستقلال ان يقاوموا بالسلاح الاستعمار الجديد الذي فُرض عليهم، فان انقسام اللبنانيين طائفياً سهّل فرض الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا.
وتشير بعض المراجع التاريخية إلى ان لجنة كنغز ـ كراين الأميركية التي جاءت إلى المنطقة عام 1919 لاستفتاء أهلها حول مستقبلهم، ومن يفضلون لحكمهم، فرنسا أم بريطانيا، وما هو رأيهم في إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، وكان بين أعضائها عضوان يهوديان، أفادت ان المسلمين أرادوا الاستقلال «بالتعاون ـ مع فرنسا»، في حين أحال المسيحيون اللجنة على البطريرك الماروني الياس الحويك الذي ما لبث ان ترأس وفداً مسيحياً ـ إسلامياً إلى مؤتمر السلام في باريس مطالباً بتثبيت استقلال لبنان. وقد فوجئ هناك بأن فرنسا لم تكن في وارد منح لبنان الاستقلال، وانها كانت تفاوض الأمير فيصل موفداً من والده الشريف حسين حول المملكة العربية الهاشمية، على أن يُدغم لبنان بسوريا ولا يُعطى الاستقلال السياسي بل يتمتع بحكم ذاتي إداري! أما في موضوع الوطن القومي اليهودي فكان هناك رفض قاطع له من المسلمين في لبنان وسوريا، في حين قال المسيحيون انهم غير مهتمين بهذا الأمر لأن فلسطين بعيدة جغرافياً عن لبنان، وان ما يهمهم منها هو الأراضي المقدسة. وقد دفعوا ثمن هذا الموقف غالياً بعد قيام دولة إسرائيل.
وبروحية البلد غير المستقل، بل الذي لا يستحق الاستقلال، حكمت فرنسا لبنان لأكثر من عقدين نشرت خلالهما بذور التفرقة الطائفية والمذهبية بين أبنائه إلى جانب انعدام المساواة بين المسيحيين والمسلمين.
وفي غياب مشروع استقلالي حقيقي، يضع اللبنانيين على طريق الوحدة والعدالة والمساواة، وينقلهم من نظام يقوم على ائتلاف الطوائف، إلى شراكة وطنية، وإصلاحات بنيوية تؤدي إلى قيام متحد اجتماعي متجانس، أساسه المواطنة وحكم القانون؟ جاء اتفاق الطائف بعد سلسلة حروب بحثية، ومطالبات بالمساواة بين المسيحيين والمسلمين، ليقيم محطة للشراكة الوطنية كان مفترضاً أن تكون مرحلة تأسيسية لدولة الاستقلال عبر نظام غير طائفي، إلا أن اجتزاء تطبيق الاتفاق قد نقل السلطة الإجرائية من رئيس الجمهورية المسيحي الماروني إلى رئيس مجلس الوزراء السني، الأمر الذي أوجد انتداباً جديداً، كما خلق حساسيات مع الشريك الشيعي، زادته حدة الثورة الإيرانية والاستقطاب الإقليمي إضافة إلى حرمان الشريك المسيحي من الدور التوفيقي بين الطوائف.
واليوم، في ظل الأزمة السياسية والانقسام الداخلي يبرز السؤال: ما العمل بعدما اهتزت أعمدة البناء الوطني، بل تزعزعت، وتصدّع أحد أبرز أعمدتها، أي العمود المسيحي، ويكاد ينهار، مما جعل فكرة الاستقلال في ذاتها في خبر كان.
ان الكيان مدعو إلى ورشة إعادة بناء على أسس جديدة، تنطلق من إعادة جمع الأجزاء المسيحية المنهارة وتدعيم ما بقي من البناء، من أجل توفير السند الضروري لبقية الأعمدة، ثم مد جسر من الجزء المسيحي في اتجاه الأجزاء الأخرى، وهذا شرط ضروري لمعالجة الوضع خصوصاً بعد انقطاع الحوار والتواصل بين الطرفين السني والشيعي، مما وضع البلاد على حافة الفتنة.
وثمة من يرى في المشاركة المسيحية ـ الإسلامية في تنصيب البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي كاردينالاً في روما في 24 من الجاري الذي دُعي إليه «حزب الله» إضافة إلى رؤساء الطوائف المحمدية الثلاث، فرصة لمصالحة ضرورية، تسبق أي حل داخلي. وكان مستحباً لو أن الرئيس سعد الحريري، الذي يتطلع فريقه إلى من يلقي له بطوق نجاة، بعد تقطّع السبل به، وفي ظل إطالة عمر «الثورة السورية» لو أجّل زيارته للفاتيكان إلى يوم تنصيب الراعي ومفاجأة الجميع بحضوره وتكريس مصالحة مع «حزب الله» والفريق المتحالف معه، في أغلى مصالحة وأكثرها رفعة في التاريخ، في الفاتيكان. 
 

السابق
عن المأزق الوطني الكبير
التالي
سوريا وإسرائيل.. مرة أخرى