حنينٌ وأرض أحلام

في الضيعة، يُعدّ الصعود في سيارة أجرة، استمراراً طبيعيّاً للحياة الاجتماعية. تُضطرّ إلى تقديم أجوبة سريعة عن أهلك وبعض أقربائك، استجابةً لملاطفة عابرة. هامش الوقت أوسع في ضيعتك. عندما كنت مقيمةً «فوق»، كانت أحلامي أكثف وأكثر غزارة. مع كلّ شعور بالملل، كنت أنغرس على سطح المنزل. أستحضر ما سبق وقرّرته سابقاً، وأسكب جديدي.
في بيروت يختلف كلّ شيء. هامش الأحلام يضيق. تتناسى ما سبق وخطّطت لحملانه معك. حتّى سائق السرفيس مختلف. هنا عليك مع ركوب سيارة الأجرة أن تنتبه لكلّ ما يدور من حولك: خطّ أمانك وسلامتك ضيّق. يتغيّر الكثير بين بيروت والضيعة. يحدث أن تموت الناس من حولك وأنت ساهٍ. قبل أسبوعين، سألتُ أمي عن إحدى نساء ضيعتنا. استهجنت سؤالي، فالحاجّة ماتت منذ أكثر من شهر. لم أتفاعل مع خبر موتها، على الرغم من أنها تعني لي الكثير. لم يدفعني غيابها سوى إلى تذكّر جارتنا التي ماتت قبل سنين. كنتُ قد نسيتها تماماً. طمست إقامتي في بيروت ذكرياتي عنها. في طفولتي كنتُ أقيم في منزلها. هي امرأة وحيدة مُسنّة، تستعين بعكّازها لتمشي، وأنا طفلة شدّتها «السكاكر». طالت علاقتي بها، حتى بات مروري عليها لازماً قبل وبعد المدرسة. كنتُ أكنس لها الدار، فرحةً بزهر الياسمين المكدّس أرضاً.
كلّما أضاعتني أمّي، تعرف وجهتها مباشرة. فجأة تذكّرت أن لا ذكريات في بالي. حتّى جدتي نسيتها. فعليّاً، بعد موت «صديقتي» الحاجة، تعرّفت على جدتي. كانوا يقولون أنّي أكنسُ الطريق إلى منزلها. كانت شيئاً مختلفاً عن صديقتي السابقة، أقلّه لم يكن لديها سكاكر، بل كانت تلزمني بحليب الماعز الذي أكره.
أحببتُ رفقتها، ربّما لميلي الدائم لكبار السنّ. مع موتها رفضت النظر إلى جثّتها، كنتُ أظنّ أني قادرة على إبقائها حيّة في ذاكرتي. ها قد مرّت فترة طويلة لم تخطر فيها على بالي. ماتت السيدتان ومعهما أغلب نساء ضيعتنا وأنا غافية. تسرق المدينة أوقاتنا. تسرق من نحبّ بلحظات سهو طويلة.
من غير المنطقيّ أن تغيب هكذا ذكرياتي. عليها أن تراودني مرّة في الأسبوع.. أشعر أنّ مقدّمة رأسي ليست لي، هي تُسعفني متى أرادت فقط.
قبل يومين، صادفني سؤال عمّا يتغيّر بين الإقامة الدائمة في بيروت والضيعة. حاولتُ افتعال جواب، لكن عبثاً حاولت. «لا شيء تغيّر»، هي العبارة الوحيدة التي أطلّت على رأسي. كنت مصرّة عليها، إلى أن أضفت أنّني «ازددت شراسة». هذا ما تخلّقه المدينة في روّادها.
في بيروت، مجرّد تجربة ركوب فان مع سائق «محشّش»، قرّر إجراء «برمة» قبل المغيب، كفيلةٌ بولادة عدوانيّة. يُصادف في هذه المدينة مثلاً أن تتعرّض للسرقة في وضح النهار. لا أحد يكترث بك.
في الضيعة، على براءتك، تلوّح بيديك لعناصر الجيش والدرك. تخالهم مصدر الأمان والحماية. في بيروت تكتشفُ العكس. تتعرّف على جنود يتحرشون بصديقاتك أكثر من القيام بمهامهم.
يتكدّس الأصدقاء من حولك في المدينة دون أسباب واضحة. يتراكمون ويملأون حياتك ضجيجاً. مهما حاولت أثناء إقامتك في الضيعة أن تخلق عالماً بهذا الصخب، لن تنجح.
يحدث في بيروت أن يسرقك حلم واحد. تضيق دائرة ما تصبو إليه لسبب مجهول. تركّز اهتمامك في مكان محدّد، وكلّ شيء متاح لتخلق مساحة لرغباتك.
لا تنفرد بشيء في بيروت. حتماً ستجد أكثر من نموذج مشابه لك.
في الضيعة قلّة هم المحيطون بك، فينتشي كلّ فرد بنموذجه الوحيد.
لا بيئة حاضنة في المدينة، مهما بحثت لن تصل. أقصى ما قد تعثر عليه هي حالات فرديّة. غريبٌ أمر الحالة التي وجدتها. جميلةٌ حدّ الخوف من فقدانها. قبل سنة، تحديداً، صنعتُ بيئتي الفردية ولم تفشل، حتى الآن.
في العائلة المقيمة في ضيعتك، كثير من الجاذبية. تجدها مغلّفة بكثير من المطيّبات. شيءٌ شبيه برائحة الغليون. عرض يغيب عن بيروت. حتّى لو كنت مقيماً مع عائلتك، ستختلف اللذة واللحظة حتماً.
هو الشعور بالذات يتجلّى في المدينة. «فوق» تذوب داخل الجماعة. كلّ ما تقوم به «مشيّك» و«معروف»، شبه انعدام خصوصيّة. في بيروت هو قرارك، تذوب في نفسك لا أكثر.
لا شيء تغيّر بين بيروت والضيعة. هي فقط «عجقة» الأولى تدخل حياتك، و«حنين» للثانية جارفٌ. في الضيعة تحلم، لا شيء أكثر. ملعبك يتّسع لأحلامك دون أرض خصبة لتحقيقها. في بيروت لك الأرض، ولتلعب كما تشاء. 
 

السابق
تركيا ترد على سقوط قذيفتين من سوريا على أراضيها
التالي
عالجوا بشرتك من الشّوائب بـ7 أيام!