صدمة بكركي الإيجابية

وجّهت بكركي صدمة قوية إلى المجتمع السياسي كله برفضها قانون الانتخاب «1960». فرضت البحث عن خيارات أخرى لتحقيق المناصفة المسيحية الإسلامية. قد يكون هذا الأمر في مصلحة النظام النسبي الذي يحافظ على القاعدة الناخـبة المختلطة في الدوائر المتوسطة، أو على العيش المشترك بدلاً من الذهاب إلى مشاريع تزيد من فرز القاعدة الناخبة طائفياً ومذهبياً. النظام النسبي هو إحدى الضمانات ليس فقط لصحة التمثيل وتظهير المناصفة بل لبداية مسار فعلي نحو تعددية سياسية في كل الجماعات الطائفية من أجل الممارسة الديموقراطية. 

ربما يستشعر المسيحيون الآن الحاجة إلى الاتفاق على الدور الوطني الإجمالي بدل المنافسة السياسية التي أدت إلى استلحاقهم بالإسلام السياسي. أما السبيل الوحيد لذلك فهو النسبية التي تجذب فئات واسعة من اللبنانيين وتريح كل الجماعات ولو كانت لا تلائم البعض الذي يرغب في تكريس احتكاره السياسي ومصادرة تمثيل بيئته الطائفية حالياً ومستقبلاً. تبدو انتفاضة بكركي اليوم أكثر ثباتاً من ذي قبل وإصراراً على تصحيح التمثيل المسيحي. ولن تخيب هذه الانتفاضة حتى لو ذهبت بها المصالح السياسية إلى أنظمة انتخابية أخرى كمشروع الدوائر الصغرى أو انتخاب كل طائفة لممثليها. وهذه مناسبة أيضاً للدروز مفتوحة لكي ينخرطوا في مشروع الدولة ويتخلّوا عن مكاسب وهمية لا ترتكز إلى أساس موضوعي ولا تخدم تقدمهم الاجتماعي ومستقبلهم في الشراكة الوطنية. وعلى عكس الذرائع المستخدمة من بعض الأطراف السياسية ضد النسبية كالحديث عن سطوة السلاح أو خطر الذوبان فلا علاج لأي من قضايا البلد ومشكلاته من دون تقوية شرعية السلطة والدولة من خلال التمثيل السياسي الصحيح والعادل والإقلاع عن المشاريع الذاهبة في الخط المعاكس معلنة كانت أم ضمنية. وبرغم الأهمية الاستثنائية لقانون الانتخاب يجب الاستدراك دائماً والتذكير بالحاجة إلى الإصلاح السياسي الذي نص عليه الدستور وتطبيق بنوده وتنظيم المؤسسات وفق المنطق العام للدستور وهذه ورشة طال أمد عدم الخوض فيها.

والغريب أن تستخدم القوى السياسية جميعها المتغيّرات العربية والتطورات السورية ذريعة للجمود أو للسياسات المحافظة أو الانتظارية، في حين ترتب هذه الأوضاع الإسراع في مواكبة مناخ التغيير ومفاعيله على مستوى الحريات والممارسة الديموقراطية. فالمعطى الأساسي في المنطقة هو تكريس الوجهة العامة لانهيار منظومة الاستبداد بوجهها الفردي وبوجهها العقائدي. تسقط الدكتاتورية وتسقط معها شرعية المؤسسات الحزبية خاصة والسلطوية عامة التي قامت على مصادرة حرية الناس باسم القضية القومية أو الوطنية. وليست أكثرية الناس منجذبة الآن إلى استبدال إيديولوجية قومية بإيديولوجيا إسلاموية وحسب كما يبالغ المبالغون. هذه مسألة شائكة لا يتم اختزالها بالتهويل عن زحف إسلاموي إلى السلطة ينتهي إلى شمولية جديدة. إن عناصر مقاومة هذا الاحتمال الموجود والذي لا يمكن إنكاره تكمن في الإفراج عن واقع التعددية السياسية من جهة ووجود مكوّنات متنوعة خاصة ما يسمى «الأقليات» التي تستطيع اليوم أن تواجه فكرة الدولة الشمولية. وإذا كان المسيحيون في لبنان اليوم أكثر تشدداً في الدفاع عن حقوقهم السياسية فلأنهم يلتقطون الفرصة العربية في مواجهة ما فيها من سلبيات وما لها من إيجابيات. ولو كان المسيحيون من قبل أكثر التزاماً بتفعيل دورهم في المدى الوطني والعربي وأقل تشبثاً بالنظام الطائفي لكان لبنان اليوم أفضل حالاً في مختلف الميادين بالنسبة لهم ولشركائهم في الوطن.

لكن المسألة دائماً هي في المصالح السياسية للنخب القائدة والفاعلة وليست متروكة للضمير والفكر الحر ولا حتى للثقافة الدينية. فلم تحمل الطوائف المسيحية عموماً والكنائس خصوصاً كل مضامين التوجيه الديني لا في الإرشاد الرسولي ولا سواه في التعاطي مع الظروف السياسية.

أما المسلمون فليس حالهم أفضل، بل هم بكل طوائفهم استنسخوا الجانب المحافظ من التراث المسيحي أي إنتاج سلطات دينية ومؤسسات طائفية من دون أن تتوافر لهم ثقافة الحرية ذاتها. فالإكليروس المسيحي مشبع بالثقافة المدنية وبتجربة طويلة من التمييز بين الحقل الديني والحقل السياسي. أما المؤسسة الدينية الإسلاموية التي تطورت في العقود الماضية في مواجهة الإخفاقات العربية فقد وضعت في أساس اهتماماتها الدمج غير المسبوق بين الديني والسياسي ما سوف يقود حتماً إلى نموذج سلبي يفرغ الدين والسياسة معاً من البُعد الإنسانوي. ولطالما كانت السلطة دائماً مفسدة، فالسلطة التي تقوم على حتميات وعلى ثقافة حصرية مغلقة وهي بالضرورة مرتبطة بحركة المصالح الآنية لا بالمشروع الضميري أو بالأفكار المثالية والمستقبلية، ستؤدي إلى الفساد. فحين نقارب اليوم صعود الإسلامويين السياسي على المسرح العربي كله نجد تلك المفارقات اليومية بين المعلن والممارس، بين وعود الحرية والعدالة والسلطة القامعة، بين ثقافة التسامح وبين العنف، بين مشروع التحرير ونزعة التسلط، ولو كانت الحركات الإسلاموية ليست على سوية واحدة في الفكر والعمل. ويزيد المشهد تعقيداً هذا التنوع ولكنه يؤكد المثل القائل: «اختلاف الأئمة رحمة للأمة». فمن العبث التفكير في عصرنا بتحويل الدين إلى ثقافة سياسية شمولية مسيطرة، خصوصاً في هذه اللحظة التي انهارت فيها منظومة الفكر القومي المدني لأنها لا تستجيب لحاجات المواطن الحر. ومثلما اكتشف القوميون من قبل أن العالم الواقعي ليس كما توهموا يتشكّل من عنصر واحد، والمجتمعات أكثر تنوعاً من أي منظور إيديولوجي، فلن يكون حال الإسلامويين أفضل حين يواجهون شعوباً لا تختصرها أية هوية ولا تعيش على الإيمان فقط.
  

السابق
تشييعه بحضور فنان واحد فقط
التالي
جعجع يواصل هوايته حتى آخر مسيحي