الغضب حليف سيئ

هل أصبح الغضب هو ما يحدد العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، وبين المسلمين أنفسهم، وبين المسلمين والدين؟
يصنّف الغضب على أنه شعور تلقائي، ردة فعل حيال ما يفعله الآخرون، (ويفكرون به) حيال ما يعتبر مقدساً عند غيرهم. وبما أنها ردة فعل تلقائية فهي غير محسوبة، أي غير داخل فيها حساب الربح والخسارة، أو بالأحرى حساب المنافع والأثمان. الغضب يؤدي إلى أفعال نتائجها غير محسوبة (وغير عقلانية)، أفعال سيقوم بها أصحابها حتى ولو أدت إلى موتهم. شهدنا نتائج الغضب الإسلامي الأسبوع الماضي وسوف نشهدها، أو نشهد مثيلاتها في الأسابيع المقبلة. أصبح رد فعل تلقائيا: عندما يقوم الغرب أو جهة غربية ما بإهانة ما لنا، نقوم بردة فعل تلقائياً: نكسر بضاعتنا، وربما نصيبهم بشيء!.
إذا كنا نهاجم، في حالة غضب، هذا المطعم أو ذاك، فماذا نفعل بمعظم ما نأكل ونلبس ونقود من سيارات ونقرأ من كتب؟ تحولنا بسبب ظروف تاريخية معقدة إلى مجتمع يستهلك أضعاف ما ينتج. معظم ما نستهلكه ينتج في الغرب، أو لدى شركات غربية

في شرق آسيا، فماذا نفعل بكل ذلك؟ ماذا نفعل بجل ما نأكل وهو يدخل لدعم الحياة أو الروح النبيلة التي نتمتع بها؟
نشك في أن هؤلاء الذين يهاجمون المطاعم يمثلون حالة شعبية. ربما كانوا قلة تتحرك لأسباب سياسية. وبما أن الموضوع يتعلق بالمقدسات فإنه لا يمكن للقيادات التدخل لردع أفعال لا مبرر لها إلا إيذاء النفس.
هؤلاء الأجانب الموجودون في بلادنا، بموجب تأشيرة، وهذه المحلات الموجودة في بلادنا، بموجب رخصة، هم بحكم المستأمَنين، ولا يحق اتخاذ إجراء بحقهم إلا لدى الدولة. مهاجمتهم تخالف ما جاء به علماء الفقه والشريعة، أعني مثلاً كتاب «السير» للشيباني العظيم، تلميذ أبي حنيفة وصاحبه. وهو ممن يؤخذ بكلامه حول المستأمَنين والعلاقة بين المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية والوسطاء بينهما.
لا يقل أهمية عن ذلك أن استعراض القوة هذا يعتبر بمثابة إرهاب للأكثرية من المسلمين في بلادنا. إن من يتحرك في الشارع يعبر عن مقدساتهم، وعليهم أن يتبعوا وإلا كفروا إذا عارضوا ذلك. والتكفير جاهز لدى جماعات لا تملك من المعرفة سوى القليل، وتستعيض عن المعرفة بالغضب وإثارة المشاعر.

إن الصراع ضد الغرب واجب. هو أمر جاء منذ عقود، بل منذ قرون، إلى أن تتحرر بلادنا ومجتمعاتنا ومواردنا من الإمبريالية وسيطرتها. ما يجعلنا نخوض هذا النضال ضد السيطرة الغربية على بلادنا، لا مجرد إهانات وجهتها إلينا بعض وسائل الإعلام الغربية؛ ونحن نعرف في تلافيف دماغنا أن الإهانات تعبر عن القليل مما يجول في صدور أصحابها. مشاعرهم هي حصيلة السيطرة الغربية. هذه السيطرة هي ما نناضل ضده، بل ما تناضل أمتنا ضده. الثورة العربية هي في حقيقة الأمر ثورة ضد الإمبريالية من أجل التحرر. لو لم تصدر الإهانات لكان مجتمعنا ماضياً في ثورته، لا ضد الإهانات وحسب، بل ضد واقع الأمة وليس فقط من أجل رموزها المهانة.

يُراد لدى البعض أن يختصر النضال ضد الغرب بإحراق محلات تجارية مقابل إهانتهم لنا بمقدساتنا الكبرى. ما أحرقه متظاهرونا هو ملك لبعض مواطنينا. رموز الثورة الغربية الحقيقية هي في مكان آخر. فهل يراد لنا أن تكون ثورتنا ضد أنفسنا، أو ضد رموز غربية لا نعرف عنها شيئاً، كما لا نعرف مكانها؟ أو يراد لنا أن نقتتل حول الرموز من هنا وهناك، لننصرف بقوانا الجدية عن المصالح الغربية الحقيقية في بلادنا؟ أم يراد لنا أن تتحكم أقلية صغيرة لدينا بما لدينا من تاريخ فكري قديم وحديث ومختصر في بضع جمل أو كتيبات، ثم تقول لنا: هذا هو المسموح لكم؟
لا أيها السادة، ناضل الغرب طويلاً من أجل وضع حدود بين المقدسات والحريات. وأخيراً انتصرت الحريات الفردية، لأن الحوار حول المقدسات لا ينتهي إلى نتائج عقلانية أو قانونية فرضية. ويدخل الإبداع تحت عنوان الحريات التي لولاها لما حدث التقدم، وما أحرزت الحداثة إنجازاتها. نريد أن تكون لنا حداثتنا؟ فلنعمل على ذلك. والعمل هنا يكون على صعيد الفكر والمعرفة أولاً. والأمر يقرره العارفون في حوارات علنية، ولا يقرره بعض أصحاب الغايات الذين يدفعون شباناً متحمسين إلى الشارع.

ثقافتنا واسعة عظيمة متنوعة، تحتاج منا أن نعرفها، لا أن نضعها في موازاة أفلام رخيصة أو كاريكاتورات مبتذلة.
المهم أن تحركنا ثقافتنا بإنجازاتها العلمية والفكرية العظيمة. وليس ما يرمى إلينا من الفتات.
الغضب ليس طريق المعرفة. ليس هناك طريق ملكي إلى المعرفة، وليس هناك طريق غوغائي إلى المعرفة.  

السابق
رد الفعل على الفيلم المسيء.. يجمد ضربة اسرائيل لايران
التالي
مقوّمات العظمة.. والتحريف!