نفاق.. وإرهاب

خطوة واحدة إضافية ونكاد أن نصل مع "طموح" أهل الممانعة عندنا، الى مرحلة محاكم التفتيش في أوروبا (إسبانيا أساساً) في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أو المكارثية الأميركية في القرن العشرين. بل يبدو واقع الحال في نواحينا أسوأ، باعتبار أن العسس الفكري المأزوم بإنتاجاته و"إنجازاته" قاصر عن تولّي كل السلطة بما يتيح له التماثل التام مع آليات البطش والقمع تلك، فيلجأ الى ممارسة هي أقرب ما تكون الى الارهاب التام.
محاكم التفتيش توّجت مواجهة شاملة إستمرت عشرات السنين وأنهت ازدواجية دينية وعرقية مديدة، ثم حلّت معضلة عدم تماثل "هوية" الحاكم مع "هوية" المحكوم واعتمدت الحل الأخير: فرض قانون التماثل بالقوة.. أو الترحيل.

المكارثية الأميركية كانت من جهتها، تعبيراً عن أحد أشكال الحرب الباردة المندلعة على مساحة الكرة الأرضية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانعكاساً لهلوسة سياسية أميركية متضخّمة أوصلت الى نفي حق الغير بالتمايز والاختلاف الفكري والثقافي والفني والسياسي في الداخل فأنتجت واحدة من أكثر صفحات الاجتماع الأميركي سواداً في كل تاريخه.
في الحالتين استند الفاعل الى مَيَلان ميزان القوة المادية، أي السلطة وكل مقوماتها، لصالحه بشكل حاسم. ثم دون ذلك مستوى، الى تقديمه بدائل جاهزة عن ذلك الذي ينفيه ويقصيه. سواء كانت ديناً مقابل دين أو عرقاً مقابل عرق أو نظاماً اقتصادياً واجتماعياً سياسياً متكاملاً مقابل حالة مضادة!

بؤس المتماثلين أو الطموحين لتلك المرتبة في دنيانا الممانعة متعدد الوجوه: السلطة التامة ليست متوفرة. وبديلها الالتباس في بعض النواحي والازدواجية في نواح أخرى.. ممانعة غبّ الطلب. قمة يأسها ان أعداءها أو أخصامها المفترضين أعادوا إقفال أبوابهم في وجهها..لا الأميركي مستعد للاستمرار في سياسة البازار والمقايضة السياسية والأمنية مع نظام (سوري ايراني) انكشف أمام داخله. ولا الأوروبي مستعد لتفويت فرصة التقاط لحظة انهيار ذلك النظام المتعب والابتزازي، أو غضّ الطرف عن ارتكاباته الدموية المكشوفة أمام الملأ. وفي موازاة ذلك، انكشاف زبائنية وتجارية الشعار الممانع بطريقة لا توصف: تعطُّل آلته العسكرية في مواجهة إسرائيل، في محطات جغرافية كالجنوب اللبناني اليوم والجولان السوري على مدى أربعة عقود، قابله ويقابله تشغيل تلك الآلة بكامل زخمها وقوتها ومجازرها ومذابحها وارتكاباتها في الداخل السوري ميدانياً، وفي الداخل اللبناني سياسياً وأمنياً.

على يمين ويسار تلك الحقيقة (الخالدة!) تكشف البؤس الممانع في أدائه السلطوي عن كارثتين وطنيّتين كبيرتين: الأولى أدلجة الفساد وإعطاؤه هوية نضالية فيما هو لا يختلف في شيء عن المافيا وطقوسها، وتراكم محن التنمية الغائبة، ثم مضاعفة الأزمات الاقتصادية بدلاً من حلّها وصولاً الى المداومة عند حافة كارثة الإفقار التام من خلال مخاطر انهيار قيمة العملة الوطنية. والثانية تحطيم النسيج الوطني والاجتماعي في كل "مكان" وصلت إليه اليد الممانعة!

في تتمّة ذلك البؤس، إن بدائل الممانعة المحلية في الأداء المؤسساتي والتنموي والاقتصادي والمالي تحكي عن حالها. وفي الأداء السياسي تحتاج الى مطوّلات لفك طلاسم وطبيعة بنيانها الذي لا يجمع بين أعمدته إلا رابط المال (النظيف طبعاً!) والمصير المشترك.. والتهافت النظري والفكري المساوي في قمّته للنفاق في أرفع معانيه.
في المحصّلة، يأتي الارهاب تتويجاً لكل ذلك البؤس.. والفشل حتى في التماثل مع ممارسات محاكم التفتيش والمكارثية!.
..منافقو آخر زمن.
  

السابق
موسكو تطرد وكالة التنمية الأميركية
التالي
الشؤون الاجتماعية تطلق حملة لا للعنف ضد الأطفال