مصائب قوم عند قوم فوائد

لا شك أن صانعي الفيلم المسيء هم مجموعة حاقدة، لكنهم قد يكونون أيضاً مدفوعين ممن هم أذكى منهم وأعرف بردات الفعل. فعندما نشر دانماركي قبل سنوات، على سبيل الفكاهة كما قال(!)، صوراً كاريكاتورية للنبي صلوات الله وسلامه عليه (وقد استخدمت إحدى تلك الصور في الفيلم الجديد)، سارع أصحاب الصحيفة والحكومة الدانماركية إلى إيقاف نشر المزيد، وفكّروا في إيقاف الصحيفة، واعتذروا من المسلمين. لكن ذلك كلّه حدث بعد فوات الأوان، لأن مجلات يمينية فرنسية وألمانية تابعت نشر الصور وتعاقدت مع الرسام لإنتاج المزيد. فما كفى هؤلاء ما حدث من ردود افعال مخرّبة، وأرادوا المزيد من الافتراق والتخاصم بين المسلمين والغرب حين كان جرح 11 سبتمبر لا يزال فاغراً فاه! وأكاد أجزم أن الإثارة هذه المرة كانت متعمدة من جانب الدوائر الاستخباراتية الصهيونية واستخدمت لها مجموعة من الحاقدين، وانتظرت نتائج بدأت تتحقق، سارعت إلى اقتطاف ثمراتها إسرائيل وإيران إلى جانب القاعدة والمتطرفين الآخرين.

أنتج الفيلم قبل عام في عز الثورات العربية، وكان يُراد إطلاقه بمناسبة 11 سبتمبر لتذكير الأميركيين بمساوئ العرب والمسلمين، بحيث «ترتدع» إدارة أوباما عن دعم الثورات العربية (في سوريا على الخصوص)، لأنها تجيء بالمتطرفين الإسلاميين إلى السلطة. لكن الأمزجة وقتها كانت مرتفعة لصالح الثورات، والنجاح في ليبيا كان لا يزال طازجاً، فطوى أصحاب الخطة الفيلم إلى مناسبة هذا العام. لقد أجلوا استخدام الاستثمار فتعاظم وزادت فوائده. فالآن يستطيعون ابتزاز إدارة أوباما أكثر في غمار المعركة الانتخابية، كما يستطيعون مساعدة خصم أوباما أكثر في أوساط الجمهور الأميركي، وبخاصة أن الأحاديث كثرت وتصاعدت وصدقتها المخابرات الأميركية عن اختراقات للقاعدة في ليبيا وسوريا وربما في سيناء بمصر. وقد تصادف الاستخدام هذه المرة أو هذا العام مع تخطيط الظواهري للاحتفال بذكرى «استشهاد» اسامة بن لادن، و«استشهاد» أبو يحيى الليبي، من طريق الإغارة في 11 سبتمبر على سفارة أميركية، فوجدوا ضالتهم في القنصلية الأميركية ببنغازي التي كان فيها السفير الأميركي وغير محروسة جيداً.

وكانت إيران حاضرة للإفادة والاستغلال. فهي منزعجة جداً من عدم القدرة على تطويع الثورات ونتائجها لصالحها رغم أن الواصلين للسلطة من الإسلاميين كانوا في الأصل من أصدقائها، بما في ذلك إخوان مصر ونهضويو تونس وحماسيو غزة. وزاد الطين بلة نفور الجمهور العربي والإسلامي من إيران لقتال حرسها الثوري إلى جانب نظام بشار الأسد، وانصراف الجمهور إياه عن كراهية الولايات المتحدة بسبب دعمها للثورات التي ما رُفع فيها شعار ضدها. وهكذا، وبعد الموجة الأولى من الاحتجاجات التي شاركت فيها ثلاث فئات: متحمسون وسُذج منهم السلفيون، وجهاديون وقاعديون أهل عنف وتدمير، وغوغاء وعامة يتبعون كل ناعق، ويتقاضون ثمن ذلك. بعد الموجة الأولى بهذه الفئات الثلاث، دفع الإيرانيون أنصاراً لهم من السنّة والمتشيعين في لبنان (طرابلس) ومصر واليمن، ثم اندفع حسن نصرالله نفسه صارخاً: لبيك يا رسول الله! داعياً إلى حرب دينية على أميركا لعدة أغراض: مصارعة الأميركان بسبب حصارهم لإيران، وصرف الأنظار عن الجرائم التي يُشارك فيها الإيرانيون وجماعة المالكي وجماعة حزب الله في سوريا، والمزايدة على السلطات العربية الجديدة بالإسهام في نشر الفوضى بحيث يضطر الإخوان إلى الاصطدام بالإسلاميين الآخرين، أو تركهم وشأنهم فتغضب منهم الولايات المتحدة!.

ولنعد إلى الأصول وإلى السلفيين والإسلاميين والجمهور: كيف ننزل إلى الشارع ونخرّب ونسيء إلى أناس لم يسيئوا إلينا؟ هل تعرفون لماذا دُمرت السفارة الالمانية في الخرطوم؟ لأنها كانت الأقرب إلى المسجد الذي جرى فيه التجمع للتظاهر! ثم كيف نعمل على خدمة المصالح الإسرائيلية والإيرانية، ونضرب استقرار بلداننا، وصورتها، وعلاقاتها بالعالم، دونما مصلحة ظاهرة أو خفية؟! إنها مصائب علينا وعلى ديننا وأخلاقنا وعلاقاتنا بالعالم، وفوائد لإسرائيل وإيران وأعداء التغيير العربي.

قبل يومين دعا السيّد حسن نصرالله الدولة اللبنانية إلى العمل مع الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، من أجل استنكار الإساءة للرسول، وإنذار الولايات المتحدة بالويل والثبور. نعم الولايات المتحدة، وليس إيران وروسيا اللتين تشاركان في القتل بسوريا! وبالفعل فان وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور سارع إلى نداء وزراء الخارجية العرب للاجتماع لاستنكار العمل المُشين. وفي غمرة حماسه لشدة تديُنه وولائه لآل بيت النبي، نسي إخبار رئيسي الجمهورية والحكومة. بل إنه نسي ما هو أهم: الإغارات السورية أوّل من أمس بالذات على الحدود اللبنانية – السورية بالمدفعية والطائرات، وإقرار قائد الحرس الثوري الايراني أن لديهم وحدات من فيلق القدس بسوريا ولبنان. وبدلاً من أن يستدعي وزير الخارجية السفير الإيراني كان رئيس الجمهورية هو الذي استدعاه للسؤال، دونما كلمة من رئيس الحكومة أو وزير الخارجية! وصدق الله العظيم حيث يقول: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعا}.
  

السابق
القاعدة وإيران والربيع العربي
التالي
هل انشقت بشرى الأسد عن النظام ؟