أخر معمل للزجاج المنفوخ في لبنان.. يعاند الإنقراض

تخون الثقة حرفة “النفخ في الزجاج حرفة تعيش “قلة الحيلة” وضبابية المصير الذي قد يحملها الى عصر “الإنقراض” نتيجة اللامبالاة الحكومية..في الصرفند الجنوبية في مدينة “سربيتا” الفينقية لا يزال “الأشقاء خليفة” يعملون في صناعة الزجاج اليدوي، صانعين فضاء فنياً من لغة الزجاج “المنفوخ” بعبقرية حسين خليفة وأشقائه الستة، وحدها تلك البلورات المزركشة بألوان الإرجوان، ومعها الأباريق الخزفية والمناضد والكؤوس الزجاجية الملونة، تخبر بوجود حرفة هي في الأصل “فينيقية، حرفة تعاند الإستسلام للإنقراض رغم غياب كل مقومات “البقاء”.
في الصرفند تركد حرفة النفخ بالزجاج وحيدة بعد إن إستسلم معمل البداوي طوعا للإقفال، ولكن الخوف من أن يستسلم المصنع اليدوي الأخير في الصرفند ويطوي صفحة هذه الحرفة المهمة؟ سؤال يحاول حسين خليفة تدويره لصالحه “أقله سنصمد أمام تلك الحال القاسية التي تمر بها حرفتنا”، التي تعيش وضعاً مزرياً جرّاء عدة عوامل مجتمعة تشكل المهدد الاساسي لإنقراضها. بدءاً من غياب الدعم الحكومي الى غلاء المواد الاولية، والأخطر غياب سوق التصريف الذي يعيش حال ركود في مقابل إرتفاع حظوظ الزجاج المستورد.

محترف آل خليفة
هنا في محترف آل خليفة الذين توارثوا المهنة من حسين خليفة وأشقائه عن أبيهم محمود، عن جدهم عبّاس، وقاموا بتطويرها، رغم ما تتطلب هذه الصناعة من مهارات تدريبية وتحمّل مشقة العمل أمام فرن النار التي تصل حرارته الى 1400درجة مئوية، وحده الزجاج يتكلم، وحده الجمال الملون يتلقط أنفاس “نفخات” محمود الذي توهج وجهه جراء حرارة الفرن البدائي، المصنوع من حجارة الآجر والمخصص لتذويب الزجاج، يحاول محمود أن يلتقط كتلة نارية لزجة بواسطة عصا، ويحولها في غضون دقائق إلى جرة مزخرفة. ويقول وهو ينفخ بحذر في العصا المضادة للتأكسد: “إن جميع أفراد عائلتي تعلموا هذا الفن منذ الصغر” لافتا الى أنها”تحتاج الى “قوة وصبر وتحمل شدة نار الفرن، فضلا عن الدقة والاتقان، وتعلمها يتطلب وقتا طويلا، اي انها تحتاج الى فريق عمل متكامل لا يستطيع فرد بعينه القيام بها وحيدا”، يشير خليفة: داخل المصنع الزجاجي ينفخ حسين خليفه في زجاجه الطيع بين يديه، كما لو كان ينفخ في روح صناعة يدوية تعيش لحظة إحتضار قريب، نتيجة ارتفاع أسعار المواد الاولية التي تحتاجها، يدوِّر “عجينة” الزجاج لتخرج بين يديه “زهرية ملونة”. في داخل المعمل عجقة فنية، الوان فسيفسائية وعجقة زجاج الملون منثور على الرفوف، هي محصلة صناعة الزجاج الملون المنفوخ هي صناعة سياحية بإمتياز عشاقها “السواح” الذين يقدرون قيمة القطعة الفنية التي تنتجها انامل حسين خليفة وأولاده تعتبر صناعة تاريخية ولكنها مهددة بان تتقاعد عن عملها عمَا قريب.

حِرفة فينيقية
تعود حرفة نفخ الزجاج لصنع أباريق المياه والكؤوس الملوّنة إلى العصر الفينيقي، عاشت عصراً ذهبياً فيما مضى، وكان هناك سباق محموم على تعلمها الذي يستغرق من 4-5 سنوات. في معمل الصرفند كان هناك نحو 40 معلما، بعضهم من مصر وسوريا، بل كان هناك تنافس محتدم بين المعامل أنذاك…اليوم تبدلت معالم الصورة، التنافس غاب عن الساحة وحلَ مكانه “الإنقراض” وسباق على الإقفال في ظل معاكسة الظروف التي ترافق هذه الحرفة التي غدت “معلما سياحيا”، يستقطب السواح للتعرف على جمالية الزجاج الملون بألوان متعددة: الأزرق، والأخضر، والبني والألوان الشفافة الذي يقدمه مصنع الصرفند الوحيد الباقي صامدا ويعمل فيه فقط 6 معلمين من عائلة خليفة وحدها.
منذ سن الثانية عشرة، بدأ محمود يراقب والده وعمه وهما ينفخان في الزجاج. وقد تطلب منه الأمر 7 سنوات ليتعلم حرفة تنتقل من جيل إلى جيل ويمارسها حالياً نحو ستة من أفراد عائلتنا”. ويستخدم العمال القناني وغيرها من السلع المصنوعة من الزجاج الأبيض التي ترميها المصانع ويحولونها إلى “تحف جميلة”، على حد قول علي الذي يلفت الى أن ” أننا بعد أن كنا نعمل ثلاث أشهر ونستريح 15 يوما تغيرت المعادلة، أصبحنا نعمل 15 يوماً في الشهر ونتوقف ثلاثة اشهر، لأن الطلب على الزجاج اليدوي محدود، ويعتمد على الطلبيات” ولا ينسى علي الإشارة الى أن “تكلفة إشعال اسبوعيا لا تقل عن ألفَي دولار أمريكي”. وهنا مكمن الخطر الذي ينكل بحرفتنا يقول حسين الذي يشير الى أن “صناعة “النفخ بالزجاج” أُدخلت قصريا الى تقاعدها، ما أبعدها حتى عن تعويض يمكنها من نقل ارثها الى جيل شباب غير مبال بأهمية ما “يكرج” من بين يديه “سهوا”.

مصنع في الصرفند
كيف يتم نفخ الزجاج؟ ما هي العدة التي يتم إعتمادها؟ المراحل التي يمر بها حتى يتحول تحفة غاية في الجمال؟ وكيف يتم تسويق ما ينتجه المشغل اليدوي؟ هي أسئلة تقتحمك وأنت تعرج خلسة على مصنع أل خليفة للزجاج في بلدة الصرفند الجنوبية، داخله تعيش عبق حرفة الزخرفة الفنية الزجاجية التي تعتمد الحرفة بشكل أساسي، على “إسطونات الأوكسجين، وأنابيب الغاز، وجهاز ضغط الهواء، ومشعل للنار يستخدم لصهر الزجاج، اضافة الى الأداة الحديدية اللازمة للتشكيل، والتي تختلف بأنواعها وأحجامها، ومجموعة من الأدوات النحاسية التي تستعمل لصب الزجاج لدى انصهاره، الملاقط للتحكم بالقطع أثناء التشكيل وقسطل النفخ”.
ويشرح حسين خلفية عملية صنع الزجاج بقوله: “نذوِّب الزجاج في الفرن “الآجر” المؤلف من غرفتين يفصل بينهما قاطع يتسرب من تحته الزجاج السائل النقي، ليصبح سائلا “مخمّراً” جاهزاً للتّصنيع بواسطة النّفخ بأنبوب من الحديد الفولاذ “المزيبق”، وبعدما يلوّح في الهواء ويدخل إلى الفرن ويخرج عدّة مرات لتشكيله و”قولبته”، وفق ما يشير خليفة الذي يجلس على كرسي خشبي ينفخ في عجينة الزجاج ويطوعها لتتخذ شكل فخارة من زجاج بلون الارجوان”. ويلفت خليفة الى أن تلوينها “يتم عبر صبغ القطع بواسطة المواد الأوكسيدية، و كل مادة تعطينا لونًا مختلفًا، وأكثر الالوان المطلوبة حاليًا الاحمر والاصفر مضيفاً” صناعة الزجاج تجعل الحرفي يبدع في الابتكار، و يطور الموديلات و التصاميم و النماذج. وغالباً ما يأتي الزبائن بابتكارات معينة لينفذها الحرفي، و منذ فترة أدخلنا القواعد الحديدية في صناعتنا بشكل يتناسب مع ذوق الزبون، وهذا ما يميز عملنا عن عمل غيرنا” يقول خليفة الذي يلفت الى اننا “نبتكر أفكاراً وتصاميم جديدة وندرك ان التحدي الذي يواجههنا كبير”.

زجاجيات متنوعة
عند تخوم المصنع يقع محترف العائلة هناك تتوزع المزهريات الملونة ذات الاشكال الهندسية المتناسقة، صحون وكاسات وزجاج النرجيلة وتحف تخطف الابصار، ربما يعيد خلط اواق الحرفة عند الحكومة “الشبه غائبة” عن حرفة يفوق عمرها 1700 سنة، وتطورت بشكل واضح في الصرفند وتميزت بإبداع وذات ميزة فينيقية حاضرة في طريقة “نفخ” الزجاج وكأنه فيلم إستعراضي بنفخ الزجاج، ألوان وأشكال مختلفة، أحجام متعددة فيها من الدقة قدر ما فيها من الحرفية والمهارة التي “يحتاج العامل اكثر من عشر سنوات لكي يتقنها” يقول المعلم حسين الذي يبدو التعب على وجه، يتحدث عن حرفته بأصالة الزمن التي عايشته “الحرفة” خاصة وأن إقفال المصنع يعني زوال الحرفة نهائياً. وهذا ما يرفضه خليفة “سأتابع المسير ولن أستسلم لأنه يعز علينا أن نرى إرثنا يذوب كما يذوب الزجاج، ولكنه لا يتمدد ويتخذ شكل البقاء” مضيفا “نحن لا خيار أمامنا غير العمل في تصنيع الزجاج التقليدي، مع أننا صرنا نبحث عن بدائل أيام “القحط”، يعني أيام عدم البيع، لكي نستمر في الحياة وإلا فهل نعاني من الجوع؟”.
وحد السؤال الذي يزاحم الحضور، أيُّ مصير ينتظر أخر مصنع زجاج يدوي في الصرفند، وهل سيستسلم لمعاندة الظروف له أم سيعاندها؟ ويستمر سؤال ربما ستكشف فصوله السنوات المقبلة.

السابق
لهذا ألغت حفلها في تركيا
التالي
امريكا والاسلام: أنهاية عصر السذاجة