البابا هنا في العالم العربي التركي الإيراني

يَزِين الفاتيكان زيارةَ البابا بينيديكتوس السادس عشر إلى لبنان غدا الجمعة بميزان… الفاتيكان، أي بميزانٍ هو أكثر دقةً من ميزان الذهب لا سيما في القضايا المرتبطة بالصراعات السياسية.

كل ما يصدر من تصريحات رسمية فاتيكانية عن الزيارة يؤكد أنها ليست زيارة "لبنانية" إلى لبنان وإنما إلى المنطقة عبر ومن خلال لبنان. فـ "الرسالة" كما نفهمها من الزيارة هي المجيء إلى لبنان بصفته مفتاح الوجود الديناميكي للمسيحيين في المشرق كلّه لا ينافسه سياسياً في هذا الدور أيُّ مكان آخر في هذا المشرق. فهو في عمق هذه الديناميكية مكان الحضور والتعايش الأول بعدما جعل الإحتلال الإسرائيلي من "القدس الإلهية"، مكاناً هامشيا للتعايش وبعدما جعلت الحركات الأصولية الإسلامية السنية والشيعية العراقَ مكانا "منقرضا" للتعايش وسوريا مكاناً مهدَّدا للتعايش فيما مصر تخوض مواجهة على مستويين: الأول بين تقاليدها الإسلامية الراسخة في الإعتدال وبين طقوس التعصب السلفية الإسلامية الوافدة والثاني في التجاذب الواقعي الحاصل بين الكنيسة القبطية بفرعيها الأرثوذكسي الأكثري والكاثوليكي الأقلّي وبين النزوعات المحافظة لمزيد من أسلمة الدولة المصرية. وهذا المستوى الثاني – للتذكير- بادئٌ قبل ثورة 25 يناير ووصولِ "الإخوان المسلمين" إلى السلطة. فالدولة الأمنية السابقة كانت بصورة ما جزءا من هذا التحوّل وأحياناً كانت مشجِّعة له في سياق من المزايدة "الثقافية" بينها وبين التيارات الأصولية على الشعار "الإسلاموي". ومن شديد الأسف – بالمناسبة – أن هناك حالياً نوعاً من سوء تفاهم بين المفترض أنهما، وهما فعلا، الحليفان الطبيعيان لقيادة التسامح الديني، أي بين الأزهر والفاتيكان. سوء تفاهم نشأ في الفترة الأولى من تولّي البابا بينيديكتوس ونتمنى أن يزول سريعا كما نراهن مع كثيرين على شيخنا، شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيّب في هذا المجال، أيا تكن الإعتبارات التي أدّت إلى سوء التفاهم هذا والذي جاء في إطاره غير المناسب مصرياً ومشرقياً. بل حتى هو غير مناسب على المستوى الشخصي لأن البابا بينيديكتوس والشيخ الطيّب يجمعهما التكوين الأكاديمي والخلفية العلمية الغربية لشيخ الأزهر الحالي.

إلى هذه المنطقة يأتي البابا مخصّصا لبنان بصفته البلد الأول- ونتمنى أن لا يصبح الوحيد- للحضور المسيحي بل للديناميكية المسيحية بتعبيراتها الأكثر حرية في "مجتمعاتنا العربية التركية الايرانية" كما سمّتها ورقة عمل "سينودوس الاساقفة" الصادرة عن الفاتيكان في عهد بينيديكتوس (2010) والتي تتحدّث عن غياب "حرية الضمير" في هذا العالم الشرقي مقابل تسجيلها لوجود حرية ممارسة العقيدة والشعائر. والمقصود بِـ "حرية الضمير" حرية تغيير الدين.

هذه إذن زيارة إلى المنطقة التي يمثّلها إيجابا لبنان بل يقود فيها سياسياً كل الوجود المسيحي في المنطقة لهذا فإن "اللبننة" المضرّة للزيارة تكون في نفي قلقها الإقليمي نفياً قاطعا أي في نفْيِ أنها تحمل هواجس خوفٍ متجدّد على مسيحيي المنطقة وخصوصا في سوريا أياً يكن تأييدنا كبيراً لمشروعية الثورة السورية. إنه انتفاءٌ مستحيل من زاوية الفاتيكان الذي قال المتحدّث باسمه أمس وببلاغة عالية وبميزان فاتيكاني أدق من ذهبي أنها زيارة "إشارةِ مشاركةٍ وتشجيعٍ إلى سكان هذه المنطقة المضطربة". كما أن البابا "يسجّل رغبةً بالحضور في لحظةٍ معيّنةٍ من دون أن يرضخ لإملاءات الظروف القائمة".

ليس هناك "أوضح" من هذا الكلام! لهذا فالزيارة هي مناسبة تعني جوهريا الأطراف المسؤولة والعاقلة والديموقراطية والوطنية في المعارضة السورية. الأطراف التي بات يقع على أكتافها وفي ضميرها وعقلها عبءُ التفكير بصيغة سوريا المستقبل.
أهلاً بالبابا المثقف والأستاذ الجامعي الذي تنم كتاباتُه عن فهمٍ رفيع للوجوه المتعددة للوقائع لا لِبُعدها الواحد حتى في المسائل التيولوجية وعن حس ساخر هو ميزة المثقفين الكبار – والمؤمنين الكبار أيضاً – كما عندما قال أن وجود كلّيّتين للاهوت في جامعة واحدة هو أمرٌ مُضْنٍ للرب!
… ونرجو من بعض عمائمنا المسلمة أن تتعلم القبول بهذه المسافة النقدية الموجودة في الغرب حتى لدى رئيس أهم مؤسّسة – دولة محافظة في العالم.   

السابق
الفساد المالي يضع مدير شبكة إتّصالات حزب الله في قبضة إيران !!
التالي
حرص فرنسي على استقرار لبنان