“السرايا الشهابية” تعاني الإهمال ويأكلها النسيان

من يحدد التاريخ زمناً محدداُ للبناء الأول للسراي الشهابية. فالغموض يلفّ ماضيها الأقدم. لربما كانت حصناً بناه العرب، أو معبداً شيّده الرومان. بيد أن آثاراً رومانية تعتّت على الزمان فاحتلت المكان لترتفع عليها القلعة الحالية التي بناها الصليبيون من دون الطبقة العلوية الثالثة، وحصّنوها تحصيناً عسكرياً منيعاً تدلّ عليه النوافذ المشقوقة لرمي السهام والنبال، والكوّات المخصّصة لإطلاق الزيت الحار أو القذائف على العدو. كانت تتبع صيدا الصليبية إدارياً وقلعة الشقيف عسكرياً. ويقال أن القلعة اشتهرت على عهد الصليبيين كدير يقصده الرهبان بقصد التعبّد حيث ما تزال «المحابس» تشير الى ما كانت تستقطبه من الرهبان القادمين الى الشرق.
أنقذها الأمير منقذ الشهابي من براثن آخر قائد إفرنجي عليها الكونت أورا دي بوربون بعد معركة طاحنة في سهل سوق الخان والمخاضة العام 1173.
 قلعة حاصبيا في التاريخ
تعرّضت القلعة للحريق عدة مرات منها:
– العام 1284 عندما دخلت جيوش المغول الى سوريا وفلسطين سالكة طريق وادي التيم.
– العام 1612 إثر خلاف بين أحمد باشا والأمير علي الشهابي أمير حاصبيا.
– العام 1617 أوفد الوزير العثماني محمد باشا جركس قوة عسكرية بقيادة حسين اليازجي دخلت حاصبيا وهدمت قسماً من السرايا.
– العام 1633 أحرقها العثمانيون ونهبوا بلدة حاصبيا عندما توجّه جيش بقيادة أحمد كجك باشا لمحاربة الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير.
– العام 1660 هاجمها والي الشام أحمد باشا ثم أحرقها العام 1671 في معركة بين الأمير فارس الشهابي وآل حيمور في البقاع الذين استنجدوا بوالي الشام العثماني.
– العام 1790 أحرقها الأمير بشير الشهابي الثاني إثر خلاف مع حاكم حاصبيا الشهابي غير الموالي له.
– في أحداث العام 1860 أُحرقت السرايا وتهدّم قسم منها ولا سيما الطبقة العلوية وأعاد الشهابيون ترميها.
 
 
لم يذكر التاريخ امة الا ومرت على حاصبيا، غازية أو حاكمة. فعرفت حاصبيا أمماً وحضارات متعددة من الكنعانيين والفينيقيين الى العبرانيين ثم الآراميين والأشوريين والفرس واليونان، وبعدهم العرب والأنباط ثم الرومان والبيزنطيين الواضحة جلياً آثارهم في أقسام السرايا الشهابية.. وجاء العرب الى وادي التيم، وقاعدته حاصبيا، والحقها عمرو بن العاص، بعدما انتزعها من البيزنطيين، إدارياً بمدينة دمشق.
ويُعتقد أن الصليبيين بقيادة الكونت ريمون دي سان جيل دخلوا حاصبيا في آذار العام 1099 قبل أن يتابعوا سيرهم الى القدس.. واتبع الصليبيون حاصبيا الى صيدا إدارياً والى قلعة الشقيف عسكرياً..
 
إنتقال الأمراء الشهابيين الى حاصبيا
كانت العلاقة بين الأمراء الشهابيين والسلطان صلاح الدين الأيوبي علاقة جيدة. ولما ساد النفور بين السلطان في مصر وسيده الملك نور الدين محمود زنكي وكان مركزه في دمشق، خاف الشهابيون وقرّروا النزوح الى مصر. ولما وقف الملك على حقيقة قرارهم وعدهم بمنزلة عالية عنده، فعدلوا عن الرحيل وجاؤوا الى أرض وادي التيم حيث استقروا أولاً في ضهر الأحمر قرب راشيا الوادي، في حين كان القسم الجنوبي من الوادي يتبع حاصبيا الصليبية.
خاف الصليبيون من ارتفاع منزلة الشهابيين وخشيوا سوء العاقبة فقرعوا طبول الحرب بأستقدام الرجال وجلب العتاد حتى حشدوا زهاء 50 ألف مقاتل، وكان الشهابيون بدورهم يستعدّون للقتال. والتقى الطرفان في سهل الخان حيث دارت رحى معارك شرسة كانت وبالاً على الصليبيين، وتمكّن الشهابيون من دخول حاصبيا واحتلال قلعتها وطرد المتبقي من الصليبيين. ولما وصل الخبر للسلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي تسلّم الحكم في دمشق، بالنصر الكبير، خلع على الأمير منقذ الشهابي العطايا السنيّة وولاّه على حاصبيا وتوابعها.
 
السرايا الشهابية
للخبر اليقين والمعلومة الصحيحة عند الكلام عن السراي الشهابية وجب لقاء الأمير مفيد والأمير منذر شهاب فهما من الامراء المتحدرين من السلالة الشهابية وما زالا يقطنون السراي حتى يومنا هذا . فالسرايا الشهابية ملك الأمراء الشهابيين، وهم يعيشون فيها منذ العام 1170، ويبلغ عددهم حوالي عشرين أميراً، عند المدخل الرئيسي الشمالي يستقبلك نحت على القنطرة الكبيرة يبرز أسداً كبيراً مقيّداً بالسلاسل وآخر صغيراً، ضعيفاً حراً، وأمامهما أرنبان طليقان. ويرمز هذا المشهد إلى أن القوي مقيّد والضعيف غير مقيّد في إبان الحكم الشهابي. 
تصدعات النسيان
نلج السرايا من باب صغير ضمن باب كبير تعلوه عبارة نقشها الشهابيون وفيها: «مما عمل برسم الجناب الكبير الغالي الأمير علي إبن المرحوم الأمير قاسم بن شهاب وذلك في سنة 1009 هـ».
تشكّل السرايا الجزء الرئيس من المجمّع الشهابي الذي يضم مجموعة من المباني المحيطة بساحة مركزية طولها 150 متراً وعرضها 100 متر: بيوت من القرون الوسطى، مسجد يعود تاريخ مئذنته المسدّسة الشكل والمزيّنة بحجارة ملوّنة الى القرن الثاني عشر، وقسم أخير ما يجعل مساحة المجمّع حوالي 20 ألف متر مربع.
وتعتبر السرايا من أهم المراكز الأثرية، وهي مدرجة ضمن المواقع الأثرية في لبنان. وعلى الرغم من ذلك لم تحظَ يوماً بالاهتمام الذي تستحقه سوى بين العامين 1965 و1975 حين قامت مديرية الآثار ببعض الترميمات البسيطة، ومذ ذاك غابت المديرية بشكل تام عن السرايا التي يأكلها النسيان وترتاح الطحالب والأعشاب البريةعلى جدارنها وفي باحاتها، وعلى الجدران الخارجية ظهرت التصدّعات التي تزيد عاماً بعد عام.
وان التقصير الحاصل تجاه هذا الصرح التاريخي والحضاري والثقافي، متمنياً على المعنيين الإلتفات الى السرايا وعمل كل ما من شأنه وضعها في دائرة الضوء والإهتمام. بالرغم من إدراج القلعة على لائحة التراث العالمي ما يعني أن القلعة أصبحت من المعالم التي يجب إنقاذها. 
جولة في الداخل
تطالعك بعد المدخل باحة عامة، طولها 60 متراً وعرضها 40 متراً، ويحتضنها بناء أثري. والمدخل عبارة عن عقد صليبي يبلغ ارتفاعه 32 متراً، ويقال انه أعلى عقد في شرق البحر المتوسط.
شهدت هذه الباحة في الزمن الغابر الكثير من ألأفراح والإحتفالات والمبارزات، بالإضافة الى الجدران المحيطة بها والبالغـة سماكتها 1.5 متراً والشرفات القديمـة والسلالم، وجنـاح شغـله ذات يوم والي مصر ابراهيم باشا.
الى يمين الباحة قنطرة شاهقة يبلغ ارتفاعها تسعة أمتار تؤدي الى كنيسة الكونت أورا ما زالت النقوش الرخامية تزيّن حائطها الأمامي وفي وسطها بئر عميقة. وفي الطرف البعيد فتحة كبيرة على شكل قنطرة من الحجر الأسود والأبيض كانت المدخل لديوان الست شمس زوجة الأمير بشير الشهابي الثاني، والى يسار الديوان بُني الجناح الذي شغله ابراهيم باشا إبن محمد علي باشا والي مصر خلال الحملة التي شنّها ضد العثمانيين العام 1838.
 
– قاعة الإستقبال الكبرى، وتعرف بالفستقية، وهي عبارة عن ديوان رُصفَت أرضه بالفسيفساء وتوسطه حوض رخامي مطعّم ضمّ نافورة ماء. مقاعده من الحجر المنحوت. يزيّن جدرانه بعض النقوش ومنها عبارة للأمير منصور الشهابي «حسبي الله الغفور وكفى عبده منصور».
وللأمير سعد الدين شهاب ديوان يقع في الطبقة الثالثة، وهو ديوان بديع تتوسطه بركة ماء ونافورة رخامية، وتحيط به قناطر عربية مزخرفة بالنقوش العربية. أما أرضه مرصوفة ببلاط من الرخام يتوسطه صليب معقوف كان شعاراً لأحد أباطرة الرومان، ولوحة فسيفساء مزركشة ما يدل على ان الرومان سكنوا القلعة قبل الصليبيين والشهابيين وأمام الديوان ثمة زخارف صليبية تمثّل أزهاراً كانت شعار آل بوربون. 
– جناح الأمير مجيد أرسلان الذي تربطه صلة النسب مع الأمراء الشهابيين. ويقطنه اليوم الأمير طلال أرسلان تزيّن مدخله الرئيسي قنطرة مرتفعة من الرخام الملوّن ، وأمامها نافورة ماء وقاعات للإستقبال تتوسط أرضها الرخامية نجوم محفورة على حجر سداسي الأضلاع. أما البرج الوحيد القائم وهو من أصل أربعة أبراج كانت تُستعمل للدفاع عن القصر الصليبي، ومنه تظهر مدينة حاصبيا، ومن الجهة الشرقية تظهر بلدات عين قنيا وشويا ، ومن الغرب بلدة كوكبا ومجرى نهر الحاصباني.
– قاعة ابراهيم باشا المصري، وتقع في الطابق الأول. سُمّيت باسمه لأنه سكنها عندما أتى الى حاصبيا لمحاربة الثوار الدروز بقيادة شبلي باشا العريان.
– جناح الأمير مفيد شهاب: يقطنه مع عائلته حتى اليوم يبدو ظاهراً فيه اثار الترميم الحديث وفيه قاعةً يتوسط جدارها الأمامي صورة للأمير بشير الشهابي. وفي الطابق الاول قاعة رحبة اقامت فيها الاميرة سهى مفيد شهاب معرضاً اثرياُ للادوات والتحف التي استعملها اجدادنا القدماء حيث يزوره القليل من السواح والكثير من المغتربين لشراء التذكارات اللبنانية خلال زيارتهم لأرض الوطن.
كذلك جناح في الطابق الارضي مزين بالعقد الحجري المميز يقطنه حتى اليوم الامير منذر شهاب مع عائلته
– الساحة اوميدان الخيل: يقع أمام القصر الشهابي لجهة الغرب، اقتطعت منه أقسام متعددة حيث بُني موقف للوقف السني وبيوت لبعض الأمراء وسواهم.
– الحمامات: وكانت تقع خارج السرايا الشهابية الى الشرق .وكانت مبُنية على الطراز الشامي بشكل قناطر وأقبية، وسقفها على طريقة العقود القديمة. يتوسط كل قاعة جرن رخامي، جُلبت اليها الماء من خارج حاصبيا بأقنية حجرية ولكنها تهدمت بفعل الإهمال وأزيلت نهائياً خلال فترة الحرب.
ولما كانت قد شُيّدت على مراحل وتعرّضت لأضرار كثيرة في كل غزو أو حملة وثم يعاد ترميمها أو إعادة البناء، فبذلك جمعت في زواياها وجدرانها وطبقاتها الثلاث فنون الهندسة والتقنيات المعمارية لحضارات عدة. فبكل بساطة يمكن تحديد الفن المعماري الصليبي، وبعض التفاصيل التي تعود إلى القرون الوسطى. أما الطبقة العلوية الثالثة فقد بناها آخر مَن سكنها وهم الامراء الشهابيون لذا تكثر فيها القناطر والنوافذ العربية الطراز، والقاعات الفسيحة المزيّنة جدرانها بالرسوم والرخام المستورد والآيات القرآنية، ووسطها بنوافير المياه.
يراوح ارتفاع جدران القصر من الخارج بين 12 و16 متراً، ويبلغ محيطه نحو 220 متراً. أما مساحة الباحة الداخلية فطولها 50 متراً وعرضها 20 متراً.
وبعد أن أغلقت الهيئة العامة اللبنانية للآثار الطبقات الثلاث التي تحت الأرض، احتفظت القلعة بتاريخها الغامض الخاص بها. ففيها دفن الصليبيون أمواتهم وفي أبراجها حجزوا أسراهم. واستخدمت الطبقات السفلية لتخزين المياه والمؤن ولإيواء الحيوانات.
ويبقى الاستفسار الكبير الموجه لوزارة السياحة وللدولة اللبنانية عن غض النظر عن هذا المعلم السياحي الكبير والذي يلفه الاهمال منذ زمن طويل مما يهدده بالسقوط والانهيار، ويجعله مجهولاً لكثير من اللبنانين. ولو وجدت هذه القلعة بضخامتها وتاريخها في اصغر دول العالم الثالث لكانت تعج بالسياح من كل أقطار المعمورة.
السابق
د. سلهب: هناك أكثر من سبب لذهاب الحكومة
التالي
صيدا: إجراءات أمنية مكثفة