الأسد يترنّح في حرب أخرى

لقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ساحات عامة تتفاعل فيها الصراعات المذهبية والسياسية المحتدمة في مجتمعاتنا، و في الثورة السورية كما في بقية ثورات الربيع العربي، شكلت تلك المواقع نقطة التجميع الأولى لانطلاقة النشطاء على الأرض، فلم يغفلها النظام السوري في حربه على شعبه، وشكلت أجهزته الأمنية ما يسمى بالجيش السوري الالكتروني. من اللافت للنظر أن هذه المواقع قد استخدمت أخيرا لتلفيق أخبار كاذبة من العيار الثقيل، فقد انتشر في الأسابيع الماضية خبر مفاده أن جيش الأسد ينسحب تكتيكيا نحو الساحل، بما يحمل ذلك من اشارة ذات دلائل يدركها السوريون، ترافق ذلك الخبر مع اعلان كل من التلفزيون السوري وقناة المنار عن نبأ اغتيال أعضاء خلية الأزمة في دمشق، وما شهدته العاصمة حينها من اضطراب أمني، ليتبين لاحقا أن مصدر الخبر حساب مفبرك للمحطة اللبنانية التابعة لحزب الله حليف نظام دمشق، قد عمل خلال فترة سابقة على اجتذاب المتتبعين عبر نشره لأخبار صحيحة، اللافت في الأمر هو التجاوب السريع للمحطة التي سارعت الى نفي الخبر بعيد انتشاره.
وقبل بضعة أيام انتشر خبر آخر تحدث عن مصرع بشار الأسد، الذي تدور الشكوك حول مكان اقامته، وزوجته أسماء في اللاذقية، على حساب مفبرك لوزير الداخلية الروسي، وقد تزامن الخبر مع انشقاق رئيس الوزراء السوري، ليختفي الحساب بعد ذلك بقليل، ويتبعه نفي رسمي لوزارة الداخلية الروسية.

قد يبدو للوهلة الأولى أن المعارضة هي من يروج لتلك الأكاذيب كجزء من الحرب النفسية، غير أن تزامن تلك الأنباء المزورة مع أحداث ضخمة تربك النظام، اضافة الى سرعة النفي الرسمي من حلفائه، الذين نسبت اليهم تلك الأخبار، يبين أن الهدف منها هو احداث بعض البلبلة لاحتواء صدمة الحدث الرئيسي، الى جانب الافتراض بأنها قد تعطب مصداقية المعارضين الذين تناقلوها.

يحاول النظام ارباك الثوار والجيش السوري الحر، في مقابل رفع المعنويات المنهارة لجيشه و مؤيديه، ويسعى الى خلق أجواء تتضارب فيها الأنباء ليصعب التحقق من صحة الخبر فور سماعه، ففي محاولة لاحتواء معركة حلب التي تحرج النظام معنويا وتكبده خسائر كبيرة بالعتاد و الأرواح، لجأ النظام الى قرصنة الصفحة المخصصة للتدوينات في موقع وكالة الأنباء العالمية رويترز، ونشر مقابلة مزيفة مع قائد الجيش السوري الحر رياض الأسعد، تحدث فيها الأسعد عن انسحاب تكتيكي من حلب، وأخبار أخرى عن خيانات وخسائر في صفوف مقاتليه، وتسويات مزعومة للنظام مع السعودية وقطر، لتعبر تلك الأخبار عن أمنيات النظام التي بات من الصعب عليه تحقيقها. وتذكر تلك الحادثة باختراق موقع محطة العربية وحساباتها على الفيسبوك وتويتر في أبريل الماضي، قبيل أيام من انعقاد جلسة مجلس الأمن، والتي بثت من خلالها أخبار عن اضطرابات داخلية بقطر وتغيير في سياستها الخارجية، للتشويش على القرار الأممي 2043 الذي صدر في تلك الجلسة.

ان الهواجس الأمنية التي يعيشها رموز النظام وتسارع الأحداث وتفسخ الثقة بمقدراته الأمنية و العسكرية تربك أجهزته الاعلامية، فالخوف من سقوط مبنى الاذاعة والتلفزيون في أيدي الجيش السوري الحر، دفعت التلفزيون السوري للتحذير بأن جهات دولية تسعى لسرقة ترددات بثه الفضائي لنشر أخبار كاذبة، وذلك ابان عملية اغتيال أعضاء من دائرته الأمنية المقربة، والتي تحدثنا عنها في صدر المقال. ليتورط بعدها اعلام النظام، بنشر خبر عملية سميت بالسقوط المدوي، لا يتبناها الا من وضع عقله جانبا، أو لم يستخدمه لفترة طويلة، فالعملية تتضمن انشاء مجسمات بالحجم الطبيعي لساحات دمشق الرئيسية وشوارعها ومقارها الأمنية، اضافة الى مجسم لجبل قاسيون وبالحجم الطبيعي أيضا، أي أنها باختصار تتحدث عن بناء مدينة مع جبل ضخم يطل عليها. لقد احتوى هذا التقرير الكثير من المغالطات الفاضحة، ليتبين لاحقا أن إحدى صفحات الثورة قد اختلقت الخبر، فتلقفه اعلام النظام بكل احترافية!

ان تزايد وتيرة الانشقاقات لتطول مسؤولين كباراً أمنيين وسياسيين وديبلوماسيين، والضربات الموجعة التي يتلقاها الأسد، فاقت قدرة اعلامه على استيعابها والتعامل معها، خصوصا أن مؤسسة الاعلام السوري تخضع لسيطرة أمنية مباشرة تتدخل في أدق التفاصيل، معتمدة سياسة التجهيل المتعمد و الممنهج. والاكثار من هذه الفبركات، سيدفع نحو تورطه بأحابيل أكثر صبيانية وأسهل كشفا، تحرج النظام حتى أمام مؤيديه.

لم تقم الثورة السورية في مقابل الاضطهاد و القمع فقط، بل هي ثورة على خطاب متكامل سياسي وثقافي و اعلامي يتعامل مع الشعب كقصر، لتصح المقولة التي يتداولها السوريون بأن «التلفزيون السوري يكذب حتى في أخبار الطقس»، وهم بذلك اكتسبوا مناعة ضد فيروس النظام، الذي وجد في مواقع التواصل الاجتماعي ساحة جديدة للكذب.
  

السابق
لماذا سماحة…؟
التالي
حماس: تأكيدات مصرية بعدم اتخاذ أي إجراءات ضد غزة