أَدَبُ العِبْرَةِ

كواحدٍ من تربويِّيينا المعدودين، وهو الذي تشهد له مؤلَّفاته المتنوِّعة المضامين بذلك، ما زال الباحث الدكتور الفاضل الكثيري، يحمل هموم تقويم وتسديد الخطوات المعرفية والثقافية للأجيال العربية الناشئة. إذ تلتمع بصمته الإبداعية الخاصة – مجدّداً – في مجال من المجالات الإبداعية الصعبة، ألا وهو مجال كتابة القصة القصيرة. وذلك في مجموعته القصصية الصادرة حديثاً تحت عنوان "عطر المزهرية" (عن داري "المودة العالمية" و"سبيل الرشاد" – بيروت) والتي تحتوي على اثنتي عشرة قصة قصيرة. وهذه المجموعة القصصية هي واحدة من الأعمال الإبداعية التي تتطلب من صاحبها جهداً مضاعفاً، في عمليّتي تشييد معمارياتها البنائية غير "المعقّدة"، وتركيباتها اللغوية الميسّرة والمبسّطة تلك التي تناسب ذائقة الطالب الدارس لها، وفي الوقت نفسه تقدّم له "إقناعيَّتها" النصيّة/ الحكائية المتميزة بالنعومة والسلاسة، مغلّفة بغلالات ملمحيّة دافئة، تجمع إلى طرافة الأسلوب وطراوته وُثُوبيّة المغزى/ الهدف، وتفتُّح أبعاده كافة، عبر عملية توحيديَّتهما/ المتكاملة. و"عطر المزهرية" هي كذلك في الشكل والمضمون ولكونها مدرسية/ تعليمية تندرج عوالمها جميعاً ضمن خارطة ما يسمى بـ"أدب الكلمة الطيِّبة" و"العِبرة الهادفة/ الماثلة"، إذْ تسيطر عليها أجواء "الواقعية التعليمية" في فن القصّ، وذلك من خلال ما هو ملحقٌ بها هنا في هذا الكتاب، من أسئلة تمرينية حول النص من شأنها تحفيز مقدّرات الطالب الكتابية وتطويع درجة ملكته الإبداعية في إعادة كتابته للنص القصصي من جديد، بهدف تمكينه من امتلاك ناصيّة تأليفيّته، من خلال تحكيكها وإنضاجها لديه.

و"عطر المزهرية" وعلى حدّ وصف ناشرها هي "باقة من ثمار الكلام في زاد الناشئة، بمخزونها اللغوي وأسلوبها القصصي، وفنونها المتنوِّعة. إنها ثمرة من ثمار الفكر المبدع في رحاب عالمٍ حكائي مشوِّق". ونحن بدورنا نقول، إنها فضلاً عن ذلك، تذكّرنا أجواؤها الخاصة، بأن القصة، وخصوصاً القصيرة منها، هي "فنٌّ عمومي" في ابتعادها المطلق عن الذاتية، ونضوحها بموضوعية حمل أعباء الالتزام القيميّ الكلّي/ المطلق بالهموم والمطالب والقضايا الكبرى على الأصعدة الوطنية والقومية والاجتماعية والسياسية وعلى حدّ سواء. فبدون أية "تهيُّوءاتٍ" أو "تهويماتٍ" شخصية أو ذاتية، من أي نوع كان، كتب الكثيري مجموعته القصصية هذه، والتي تمتاز بوفائها وإخلاصها التامين لمرجعها الحي (أي الواقع المعيش) بدلالاتها الإحالية والإيحائية من خلال إحكام تركيزيّة وحدة التأثير أو الانطباع لدى القارئ. فلقد استطاع الكاتب – وهذا ما تمتاز به القصة القصيرة أساساً – الإضاءة الجيدة على اللحظات الأساسية والمصيرية لحياة الإنسان وحياة الحيوان وحياة الموجودات التي تحيط بهما معاً، ومأتى ذلك متجلٍّ من خلال ما تنضح به محمولات سرديَّة القص هنا وعلى مستويي الواقع والمتخيَّل معاً (زماناً ومكاناً وأحداثاً وشخصيات، ووصفاً وحواراً ديالوغيّاً ومونولوجيّاً) وما ينبثقُ من كل ذلك وما يلحق بكل ذلك من تصورات خاصة وعامة، تكفلت بأعباء انشغالياتها اثنتا عشرة قصة (بينها نصّ مسرحيّ واحد) تشكلت وحداتها الحدثيّة عبر موقعيّة اثنتي عشرة رؤية مختلفة ومتنوعة للوجود والحياة والإنسان والطبيعة ومحتوياتها من خلال ارتباط ديالكتيكيّ مثمر معرفياً. فأسلوبيّة قصصية "عطر المزهرية" استطاعت أن تتخذ من "السهل الممتنع" مرتقى إنجاحياً حقق غايته المنشودة في إغناء مضمونيّتها واكتمال هدفيّتها "البرهانية" المطلوبة. لذا فهي تستحق أن تُتَبَنَّى فعلاً ضمن المقررات الدراسية للمرحلتين الابتدائية والمتوسطة.  

السابق
افتتاح مقهى للحزن في الصين!
التالي
عن أي رمضان نتكلم..؟