خلف خطوط تيار المستقبل

خلف خطوط التماس، في ملعب تيار المستقبل، مجموعة مقاتلين يحافظون باللحم الحيّ على ما أبقاه النظام السوريّ لهم بعدما اخترع لهم الخصوم وقوّاهم عليهم. يقاتلون وحدهم من دون مبالاة حلفائهم المفترضين بهم

سمرٌ غالبيتهم. يشبه بعضهم فقراء قراهم البعيدة ومدنهم. لا يظهر بعضهم إلا والعرق يكده. لا تعرف بشرة هؤلاء الكريمات، حتى بذلات بعضهم الرسمية هي نفسها تكاد تكون منذ إطلالتهم السياسية الأولى. عمار الحوري ومصباح الأحدب وخالد زهرمان أحلى منهم وأكثر «هفهفة». أما في الخطابة، فـ«يا محلى» الرئيس سعد الحريري: يخلع سامعهم أذنه عنه ولا يخلعون جاكيتاتهم، معوّضين انعدام ملكاتهم الخطابيّة بقراءة رتيبة لما يكتب لهم. إسرائيل عدوتهم و… الكاريزما. يقاطعون كل بضائعها، تشتمهم ويشتمونها.
خدماتياً، لا الحاجب في الإدارة العامة يعيرهم أدنى اهتمام، ولا المديرون العامون أو سائر القوى الطبية والمائية والكهربائية والتربوية والسياسية والدينية والزراعية (…). فيما لا ترشح جيوبهم غير مواقف وطنية.

لكن رغم افتقادهم المال، بإعلامه وخدماته وإطلالته، يفوز أسامة سعد بتأييد أكثر من 30% من المقترعين السنّة في صيدا، ويحوز عبد الرحيم مراد النسبة نفسها في البقاع الغربي، وجهاد الصمد في الضنية وكمال الخير في المنية ووجيه البعريني في عكار والرئيس عمر كرامي في طرابلس.
بعيداً عن انشغالات حزب الله والتيار الوطني الحر والرئيس نجيب ميقاتي، يخوض هؤلاء معركة الحدِّ من الانعطافة الشعبية السياسية ضد المقاومة باتجاه التشدد الطائفي، في مناطق نفوذ تيار المستقبل. لكن غالباً ما تقود النقاشات، سواء معهم أو مع جمهوري 8 و14، إلى خلاصة واحدة: لا أحد يفي هؤلاء حقهم.

يركض أبو وليد البعريني يومين أسبوعياً على المنارة في بيروت، وخمسة أيام في عكار: لا يحول عزل تيار المستقبل عكاره دون تنقله من دون مواكبة بين القرى، رافعاً علم النظام السوري وعدّته الخطابية. يطرق الأبواب ولا يكلّ بابه من طرق الزوار. ثلاثون في المئة من سكان قرى النفوذ المستقبلي يفضلون البعريني على انفعالات معين المرعبي وإسلامية خالد ضاهر ورشوة المستقبل. رغم ذلك، ليس للبعريني موطئ قدم في وزارات 8 آذار الخدماتية ولا في صالوناتهم السياسية أو خططهم المرحلية.
إلى صيدا، بدا في اعتصام الشيخ أحمد الأسير أخيراً أن رجلاً واحداً يمكنه التلويح بإصبعه هناك للحالمين بقطع طريق المقاومة، فضلاً عن إثباته ألف مرة سابقاً حفاظه على تماسك كتلته. رغم ذلك، يرى أسامة سعد أقطاب 8 آذار يخجلون من نشر خبر لقائهم به، ويسمعهم يحتفون إن تكرمت عليهم «الست بهية» باتصال.

يحضر في سهرات صيدا الرمضانية شباب التنظيم الشعبي الناصري، في كل حارات المدينة وعائلاتها ونواديها. يكفيهم، يقول أحدهم، معرفة منطقتهم بهم واعترافها بحجمهم. وينقسمون بين من يخشى تنبيه الأضواء خصومهم إليهم، ومن يراها حاجة لرفع معنويات الأنصار. هم الحلقة الأضعف في قوى 8 آذار بحكم حجمهم والضغط الممارس عليه، يقول أحد الناشطين، والأقوى بحكم دقة المواجهة التي يخوضونها ومنعهم المستقبل وحلفاءه من التفرد بقيادة طائفتهم. وفي خضم الحديث، يحمل بعض الحاضرين حلفاءهم المفترضين مسؤولية الإسهام بطريقة غير مباشرة في تشويه المستقبل صورتهم. فلم يحرك أحداً ساكناً للحد من تلك الدعاية التي تجعل السنيورة رجل دولة وأسامة سعد فاسداً، ضاهر استقلاليّاً والبعريني بعثياً، فتفت نظيفاً سياسياً والصمد غير ذلك.

من صيدا البحرية إلىمصايف الضنية المنسية: يحتفل إعلام 8 آذار كإعلام 14 بجاذبية فتفت ويتسابقون على استصراحه، فيما لا يعيرون الصمد أي اهتمام، رغم الفارق الشاسع في ثقافة كل منهما السياسية وحضوره الشعبيّ وغيرهما. ثمة زعيم حقيقي في هذه المنطقة اسمه جهاد الصمد، بنى لنفسه شبكة أمان خدماتية وشبكة أخرى شعبية متراصة. في صالونه يخوض الرجل في حديث سياسيّ جديّ. وبعكس خصومه، لا فاكسات تتكدس فوق طاولته الجانبية ولا هاتف يراجعه بكل تفصيل. يصعد الرجل بأفكاره وينزل، على هواه. وإلى صيدا مجدداً، «لولا الأسير لما حظي سعد بأدنى اهتمام إعلامي» يقول تنظيميّ. أما في طرابلس فتؤكد تجربة الرئيس عمر كرامي في المدينة، كما تجربة الشيخ بلال شعبان في بعض أحيائها، تجذرهما في بنية مناطقهما الاجتماعية أعمق مما يتخيله كثيرون بكثير. بلا مال ولا فائض خدماتي يمثل كرامي اليوم في عاصمة الشمال أكثر مما يمثل كل أمراء المدينة الجدد مجتمعين. مع النظام السوري أو من دونه، ممثلاً في الحكومة أو مبعداً عنها. يعلم كل من يفهم قليلاً في انتخابات المدينة أن تحالف كرامي مع واحد من ميقاتي أو الصفدي أو الحريري يضمن له بلوغ المجلس النيابيّ. ثمة كتلة لم يقوَ، حتى النظام السوري سابقاً ولا القوات اللبنانية لاحقاً، على تفتيتها. في عكار سبق الاستخبارات السورية أن دعمت نائباً يدعى خالد ضاهر لتبتز البعريني به، فنجحت نسبياً. لكن لا تلك الاستخبارات أمس، ولا غيرها اليوم، ينجحون بمنحه تمثيلاً يوازي نصف التمثيل البعريني، بعيداً عن تيار المستقبل.

لماذا؟ لأن كرامي، سعد، مراد، الصمد، الخير والبعريني ما غيره، ينتمون إلى مناطقهم ويشبهون بمواقفهم وعلاقاتهم وفقرهم الخدماتي ناسهم أكثر من كل هؤلاء، يقول أحد شبان التنظيم الناصريّ.
لا يمكن لقاء هؤلاء مجتمعين. لا يرضى أحدهم بمجالسة الآخر (باستثناء كرامي)، فكل فرد منهم زعيم. وفي النقاشات معهم، لا يعرفون هم أنفسهم كيف يمكن حلفاءهم أن يفيدوهم: بالخدمات أم الإعلام أم الإشراك السياسيّ؟ أو ما يجب عليهم فعله للتقدم إلى الأمام. كل ما في الأمر أنهم غير مرتاحين لأوضاعهم ويشعرون بنقص ما. ولا يمكن، يقول أحدهم، من يسعى اليوم إلى ترميم ما يصدعه الفرز السياسي المذهبي أن يواظب على تجاهلهم كما يفعل منذ ست سنوات أو أن يواظب على اعتبارهم مجرد ملحقين بموزع أظرفته المالية. تاريخهم برغم بعض بقعه أنصع بلا شك من تاريخ خصومهم، يقول النائب السابق، ويتابع: «مصيبتنا أن خصومنا كما بعض حلفائنا جعلوا من انحيازنا إلى خيار المقاومة ورفضنا التشدد الطائفي عاراً نعزل بسببه ويهزأ بنا».

الأكيد أن الرئيس عمر كرامي وأسامة سعد ووجيه البعريني وعبد الرحيم مراد وجهاد الصمد وكمال الخير أهم اليوم بمواقفهم المتجاوزة لمصلحة طوائفهم من جمهور حزب الله وعون ومزاجية «الأستيذ». والأكيد أيضاً أن قوى 8 آذار طرشاء عمياء، فيما خصومها يسمعون، يرون ويعملون.  

السابق
مكالمات هاتفية بين لبنان ومنتجع بورغاس البلغاري
التالي
الدولة العلوية ودومينو التقسيم !