الكورة –دمشق–بيروت

بُعيد انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة، في 1958، أجريت انتخابات فرعيّة في قضاء الشوف نجمت عن مقتل نائبها نعيم مغبغب. يومها اكتسبت تلك الانتخابات معاني وطنيّة عامّة تجاوزت الشوف إلى خيارات سياسيّة عريضة تعني جميع اللبنانيّين: ذاك أنّ سؤال الأسئلة كان يدور حول مدى التكيّف مع العهد الجديد لشهاب، ومع واقع «الجمهوريّة العربيّة المتّحدة» المتشكّلة، برئاسة جمال عبد الناصر، من وحدة مصر وسوريّة.

في تلك الانتخابات الفرعيّة تواجه سالم عبد النور مدعوماً من كمال جنبلاط وأجهزة السلطة الشهابيّة، وإنعام رعد، أحد أقطاب الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، مدعوماً من كميل شمعون وسائر حلفائه. وبانجلاء غبار المواجهة، فاز الأوّل، ومعه فاز خيار التكيّف مع الشهابيّة والتوافق مع دمشق الناصريّة. أمّا السوريّون القوميّون المهزومون فما لبثوا، تعبيراً عن اعتراضهم على الواقع الجديد، ووفاءً لتحالفهم مع شمعون، أن قاموا بمحاولة انقلابيّة انتهت بهم إلى السجون.

الانتخابات الفرعيّة الأخيرة في قضاء الكورة تنتمي إلى هذا الصنف من الأحداث التي تتجاوز طابعها البلديّ إلى خيارات سياسيّة عريضة، خصوصاً أنّ الكورة، مثل الشوف، قضاء مختلط طائفيّاً ومذهبيّاً، أي أنّه صالح لأن يشكّل مرآة نسبيّة تعكس الميول والتيّارات التي تتعدّى جماعة من الجماعات بعينها. ثمّ إنّ الصدف (؟) قضت أن يكون المهزوم، أيضاً وأيضاً، مرشّحاً من السوريّين القوميّين الاجتماعيّين، مرشّحاً أخطأ الحساب، ولو على نحو معاكس للخطأ الذي ارتكبه سلفه أواخر الخمسينات.

والحال أنّ مسألة المسائل اللبنانيّة اليوم تدور حول قدرة هذا البلد الصغير والمتضارب على التكيّف مع الواقع الجديد الذي تفرضه الثورة السوريّة، ومن ثمّ مع الانهيار المرجّح للنظام الأسديّ. وفي المعنى هذا تندرج الانتخابات الفرعيّة الأخيرة في السياق الذي تندرج فيه أحداث عدّة لا يخلو بعضها من العنف (طرابلس، عكّار، بعض المناطق الحدوديّة في البقاع). فإذا ما عُمّمت نتيجة مواجهة الكورة على صعيد وطنيّ عامّ، أمكن القول إنّ أكثريّة جديدة سوف تحكم لبنان في الانتخابات العامّة التي ستُجرى بعد بضعة أشهر، وإنّ القابليّة لذاك التكيّف قائمة، بل ربّما كانت كبيرة. يضاعف هذا الاحتمال أنّنا لا نتحدّث عن انقلاب، بل عن تطوّر يملك أصوله ومقدّماته: ذاك أنّ الأكثريّة التي فرزتها الانتخابات العامّة الأخيرة كانت لقوى 14 آذار أصلاً، وهي ما كانت لتتغيّر لولا العنف الفعليّ الذي مورس في 2006، ثمّ العنف الرمزيّ في ليلة القمصان السود الشهيرة.

فارق واحد قد يطلقه احتمال كبير كهذا قياساً بما حصل في بدايات العهد الشهابيّ، وهو أنّ الردّ، هذه المرّة، قد لا يكون محاولة انقلابيّة فاشلة ومسرحيّة. ذاك أنّ «السلاح المقاوم» جاهز لما هو أكثر كثيراً في ما خصّ مقاومة الحياة السياسيّة والديموقراطيّة، فيما «حزب الله» غير الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ الذي يفشل في الانتخابات بقدر ما يفشل في الانقلابات.  

السابق
كيف يفكر الأسد الآن؟
التالي
بان غي مون لا ينام بسبب سوريا