حـوار .. عبـر الـزلازل!

يعود أطراف اللعبة السياسية في لبنان، ويعيدون معهم «الرعايا» إلى دوامة الحوار، اليوم.
هم يعرفون أن أخطر نتائج هذه العودة هي: الصورة!
.. والرعايا اليائسون من قدرة هذه القيادات، أو من رغبتها، في ابتداع حلول لمشكلات «النظام» الذي استولدها، لا يتوقعون أكثر من هذه «الصورة».
الكل يعرف أن «النظام السياسي» في لبنان فريد في بابه، وأنه ـ بطبيعته ـ ولاّدة أزمات.. وأن أركانه، على تبدّل أحواله والتغييرات الطفيفة في أشخاص القيادات، هم المستفيدون من أزماته… وهي أزمات غير قابلة للحل إلا بتغييره، والتغيير ممنوع بالأمر العالي! وقد التهمت الطائفية الأحزاب السياسية ذات البرامج والنقابات، فصارت بين ركائز النظام التي تدّعي العمل لتغييره من أجل استنقاذ كرامة شعبه والتقدم به نحو الغد الأفضل.
هذا في لبنان، النموذج المبهر لمن ينظر إليه من خارجه..
أما في الأقطار العربية الأخرى، مشرقاً ومغرباً، فالحال أمرّ وأدهى: إذ بينما دولها بمجملها تكاد تختنق بأزماتها، فإن أنظمتها أعجز ـ بالدكتاتورية ـ من أن تدير حواراً حقيقياً بين القوى السياسية والاجتماعية لتوفير مخارج تنقلها من مناخات الحرب الأهلية إلى آفاق الحلول السياسية القادرة أو المؤهلة على فتح أبواب الغد أمام شعوبها التي غيّبها القهر دهوراً عن القرار، فنسيت كيف تتخذه أو تشارك فيه. بل إن الأنظمة الحاكمة، وهي بأكثريتها عسكرية وبمجملها دكتاتورية، استخدمت في بعض الحالات لافتات أحزاب ذات مبادئ واعدة وذات شعارات براقة، فلما تمكنت تفرد «الزعيم» وكفى به ممثلاً شرعياً وحيداً!
ومع أن آفاق المنطقة تضج الآن بالخطب والبيانات وهتافات ملايين المتظاهرين في «الميدان»، فلا حوار حقيقياً وصحياً في أي بلد عربي.. ونعني ذلك الحوار المؤهل على توفير مخارج فعلية من المآزق التي أوصل «النظام العربي» الشعوب إلى وهدتها الخانقة. ثم إن قواه الحية قد ضربت بالقمع أو بالغواية وتهاوت الأحزاب وتولى النقابات موظفون، فصارت الحشود بلا قيادة وبلا برامج غير التمنيات التي كثيراً ما سحقتها الدبابات أو دعوات التخلف من قبل.
ها هي سوريا تغرق في دماء شعبها، ويتهدد التمزق والضياع دولتها ووحدتها الوطنية، لأن النظام الذي لم يعرف «الحوار»، والذي اضطر إلى فتح بابه موارباً، تحت الضغط من الداخل والخارج، لم يوفر له فرصة النجاح وحصره بشروط مستحيلة التنفيذ حتى بات مجرد ثرثرة خارج دائرة الفعل. ولقد احتاج النظام إلى الحزب الذي يحكم باسمه لينتبه من بعد إلى أنه قد شطبه واختصره بشخص السلطان مفرداً.
أما في العراق فلم يفتح إسقاط نظام الطاغية صدام حسين بقوات الغزو الأميركي الباب لحوار جدي بين مختلف القوى التي كانت مضطهدة ومشردة وبلا رأس أو برنامج، بينما تبيّن ـ في الميدان ـ أن حزب البعث الذي كانت شعاراته تملأ الأفق لم يكن أكثر من مجرد قناع، وكان المخلصون من الحزبيين قد سقطوا برصاص الطاغية شخصياً قبل أن يحـوّل الحـزب إلى مجـرد لافتة خادعة. ولقد أفاد الاحتلال بل هو قد أفاد من فرقة المناضلين، وغذى الرغبة في الانتقام التي أخذها الهياج ونقص الإحساس بالمسؤولية الوطنية إلى العصبية العنصرية والطائفية والمذهبية، فإذا العراق مِزَق تتناهب السلطة فيه الرموز الأكثر تعصباً، بينما استقل الكرد بإقليمهم من دون أن يتنازلوا عن حصتهم في السلطة المركزية وعائدات النفط!
… وها هي مصر تُدفع الآن دفعاً في اتجاه الضياع عبر صراع شرس بين أهل نظام الطغيان الذي أسقطته ثورة الميدان، وبين قوى التغيير التي تصدّرها «الإخوان المسلمون» الذين حافظوا ـ برغم عصور الاضطهاد ـ على تماسكهم وعلى برنامجهم القائم على الاستئثار بالسلطة عبر استخدام الشعار الديني، وظلوا الحزب الوحيد فضلاً عن حزب الدولة ممثلاً بالعسكر وبشركائهم من الأزلام في المغانم… فصار الصراع بين مشروعين لا يحظيان بالقبول الشعبي، لأن كليهما من طبيعة انتقامية، فضلاً عن توجهاتهما الدكتاتورية.
إذن، لا حوار جدياً لأن الطغيان، سواء بالشعار الحزبي المدّعى أو بالشعار الديني ألغى الشعب وقواه الحية. وفي غياب الحوار لا تتبقى غير المواجهة في الشارع، خصوصاً أن المجلس العسكري قد تحوّل من حَكَم يشرف على المرحلة الانتقالية إلى «حاكم»، يساوم من موقع القوة على دور حاسم في القرار، في العهد المقبل، بهدف الوصول إلى «قسمة ضيزى» بين العسكر والإسلاميين على حساب مشروع التغيير وقواه التي ملأت الميادين بالهتافات ولكنها لم تكن تملك برنامجاً لسلطة ما بعد عهد الطغيان.
… وفي البحرين يرفض النظام الدكتاتوري الاعتراف بالشعب، ويندفع إلى مواجهة مطالب الأكثرية بالسلاح، معززاً بتأييد سعودي مفتوح لمنع «التغيير» لأن الملوك يعرفون أنه إذا ما بدأ في الأطراف فلسوف لن يتأخر عن اجتياح «المركز» المذهّب.
أما في ليبيا حيث كان الشعار المفضل عند القذافي «من تحزب خان» فقد التهم التغيير بقوة الحلف الأطلسي البلاد بشعبها ودولتها، إذ قامت في كل جهة ميليشيا قبلية أو عنصرية، وارتفعت الأصوات بدعاوى التقسيم والعودة إلى الولايات والاتحاد الفيدرالي، بحيث اختفت الدولة وتمزقت وحدة الشعب. وابتلعت العتمة صورة المستقبل.
[ [ [
إلى طاولة الحوار في القصر الجمهوري، مجدداً.
القرار حكيم، مع الوعي بأن النتائج المتوقعة لن تصل إلى مستوى «المعجزة» بابتداع حلول لأزمات رافقت هذا النظام الفريد منذ استيلاده على أيدي «الدول» ولم يكن لأهل البلاد رأي فيه… فالنظام الطائفي يلتهم القوى الحية ولا يقدم الحماية والمنافع إلا للأحزاب والتنظيمات الطائفية التي تعمل لإدامته، فهي من «أبنائه الشرعيين» فكيف تطالب بأن تقتل مصدر حياتها.
أخطر ما في هذا القرار أن يجلس أهل النظام في مواجهة «رعاياهم»، بحيث تتأكد حقيقة أنهم هم المسؤولون عن تفاقم الأزمة، حتى لو كانوا أعجز من أن يتصدوا لحلها. فكل طرف منهم «دولة» بذاته أو بمن يمثل! وواضح أن «الدول» الحقيقية مشغولة الآن بما هو أبعد من لبنان، ولذلك فهي قد تمنحنا فرصة لهدنة طويلة نسبياً، معلنين سلفاً رضانا بهذا النظام المعادي للإنسان لأننا لا نملك ترف إعداد البديل وإنجاحه!
فلنفد من هذه الهدنة لاستنقاذ هذا الوطن الصغير والجميل من موجة الزلازل التي تتهيأ لتضرب المنطقة برمتها… باستثناء إسرائيل!
هل هي مصادفة أم هي نتيجة أو ثمرة مسمومة لحكم الأنظمة الدكتاتورية التي دمّرت حاضر العرب وتهدّد مستقبلهم من أدنى أرضهم إلى أقصاها.
  

السابق
ديموقراطية مصر والحكم الإسلامي
التالي
من يحقّق الإختراق في الحوار..؟!